img

يبدو أن هناك واقعتين لهما عميق الأثر على التكوين النفسي لبشار الأسد. أولاهما أنه الرئيس- المصادفة بكل معنى الكلمة. كان باسل الأسد هو الخيار الطبيعي لأبيهما حافظ، ليس فقط لأن باسل هو الابن الأكبر، ولكن لما يبدو أنه كان يتحلى به من ثبات نفسي وعزم، خلافا للابن الثاني، انفعالي الشخصية، الذي يقال إنه كان موضوع سخرية البنت الوحيدة في العائلة، بشرى. ويبدو أن الكلمة التي كانت تتواتر على لسان الأخت في وصف الولد بشار هي الهبيل أو الأهبل. فقط بعد مقتل باسل بحادث سيارة في مطلع 1994 صار بشار مرشح أبيه الاضطراري لخلافته. يدين بشار بموقعه لموت أخيه، وليس لتفضيل الأب أو لكفاءة خاصة. يدين بالقدر نفسه لإرادة أبيه تأسيس سلالة حاكمة لعائلته في سوريا، تجعل منها مِلْكاً، وتُجنِّبه ما يحتمل أنه كان يخشاه: تجريمه كقاتل وإظهاره طاغية عابداً للسلطة. وقع على بشار أن يكون مجسد التحول السلالي وحامل أمانة الأب وميراثه. الدستور الباطن لسوريا منذ تأهيل بشار ليشغل مكان حافظ بعد لحظات من إعلان وفاته في 10 حزيران/يونيو عام 2000 هو أن يحافظ بشار على ملك العائلة، وأن يورثه لابنه أو لأحد من الأسرة. هذا هو التزامه الجوهري الذي لا يمكن أن يُفرِّط فيه بحكم الفعل التأسيسي الذي آل بموجبه حكم البلد إليه، فعل التوريث.
الواقعة الثانية أن بشار كان طوال الوقت في موضع مقارنة مع أبيه، ومن المحتمل أن محاكاة الأب في البقاء في الحكم والقتل من أجله كانت حاضرة طوال الوقت في باله وهو يعذب ويقتل ويدمر طوال ما يقترب من أربع سنوات ونصف. ورغم أنه قتل أكثر من أبيه ودمر أكثر من أبيه، فإنه لم يصر مهيوبا مثل أبيه، لا بين السوريين ولا في الجوار، ولا حتى في دوائر النظام والعائلة نفسها فيما يبدو. وهذا ليس فقط لكفاءات خاصة بحافظ، وقد كان بالفعل صبورا حقودا قاتلا، متحكما بنفسه متكرسا لسلطته، غير متلون ولا متقلب الشخصية، وإنما كذلك لأن بشار لم يشأ ولم يكن مؤهلا لأن يختط لنفسه نهجاً خاصاً يميزه عن الوالد أبي باسل، وسرعان ما وضع نفسه في حذاء أبيه، تحت يافطة “الاستقرار والاستمرار”.
أقل ثباتاً من أبيه من الناحية الانفعالية، أقل صبراً أيضاً، وفي مواجهة ثورة أكبر وأوسع قاعدة مما واجه أباه، لم يجد بشار غير أن يتفوق على أبيه في القتل والتعذيب والتدمير. تفوق كثيراً بالفعل، مع ذلك ظل الولد المستخفُّ به، الذي لا يبدو أن أحدا “يقبضه” بجد. وبينما كان هناك كثيرون يحبون حافظ وكثيرون يكرهونه، لا يبدو أن أحداً يكره بشار، يحتقرونه فقط. هل يحبه أحد؟ هذا مشكوك فيه، أقله ليس الحب القوي الممزوج بالاحترام. كان حافظ واثقا بنفسه أما بشار فهو معجب بنفسه. ويأخذ الابن وضعاً دفاعياً طوال الوقت، ويشعر أنه غير مفهوم. لعل هذه تجربة طفولية متأصلة: يتهم ويسخر منه فيعمل على تبرير نفسه. وبينما لا يكف الرجل عن محاولة الشرح، ويسهب إلى درجة السماجة، فإنه لا ينجح إلا في إثارة السخرية في نفوس مستمعيه.
على أن بشار حقق فعلا شيئاً مغايراً لزمن أبيه: لبرلة الاقتصاد السوري، وإنجاز التحول من اقتصاديات القطاع الحكومي إلى اقتصاديات يتحكم بها خواص. إلا أن من شأن الكلام لبرلة الاقتصاد، أن يعطي انطباعا مضللا جدا، يبقى مضللا أيضا إن قلنا إنه يطابق الكاتالوغ الليبرلي الجديد: التقشف والحد من الإنفاق العام، توحيد أسعار الصرف، تشجيع الصادرات، تحرير التجارة، رفع الدعم عن سلع أساسية أو خفضه… ما جرى اقتصاديا في سوريا في سنوات بشار، وبعد 2005 بخاصة (إثر مؤتمر حزب البعث الذي أقر التحول نحو “اقتصاد السوق الاجتماعي”)، هو نقل ملكية الاقتصاد السوري وموارده العامة من يد “الدولة” إلى يد نخبة الثروة التي تشكلت أساساً في كنف سلطة حازت نخبتها طوال الوقت موقعا امتيازيا حيال الموارد العامة وتحريكها وإدارتها، دون رقابة اجتماعية من أي نوع. بعبارة أخرى، مع انتقال ملكية سوريا ذاتها رسميا إلى السلالة الأسدية انتقلت ملكية الاقتصاد السوري والموارد العامة إلى يد طبقة تكونت في سنوات حافظ، ويرمز لها رامي مخلوف ابن خال بشار، وخازن بيت مال العائلة. عبر شركاته وشراكاته، يسيطر ابن الخال على ثلثي الاقتصاد السوري.
قد يلاحظ المتابع أن كاتالوغ اللبرلة السورية تنقصه الخصخصة، وأنه لم يجر تحويل ملكية مشاريع الدولة والموارد الأساسية وبيعها إلى خواص. صحيح. ما جرى تحويله إلى خواص في سوريا هو الدولة ذاتها عبر التحول السلالي. هذا الأخير ليس فعلا سياسيا محضا، إنه تملك للبلد فعليا على يد بشار وجيله من “أبناء المسؤولين” (مسؤولي أيام حافظ) وشركائهم وأتباعهم. الخصخصة في سوريا أكثر ضراوة من نظيراتها في أي بلدان عربية أو غير عربية بفعل بناء سلالة تمتلك البلد وما عليه ومن عليه. هذا شيء لا يلاحظه عموما غير السوريين، وقلما تسنى للسوريين بالذات الكلام عليه والتداول في شأنه. هذا بفعل الشرط ذاته الذي جعل خصخصة الدولة والتحول السلالي ممكنين، أعني تقييد المجتمع السوري ومنعه من الدفاع عن نفسه أو حتى التعبير عن نفسه، وهذا بعد سحقه في ثمانينيات القرن العشرين. أُخرج السوريون من السياسة، وتحولوا إلى رعايا وتابعين، ومنذ أيام حافظ كانت سوريا توصف بأنها “مزرعة” للطاغية الأب ومن والاه.
تخطيطيا، يمكن القول إن حافظ استولى على السلطة عام 1970، وعلى المجتمع في ثمانينيات القرن العشرين، وتملك بشار سوريا عام 2000، وكممثل لطبقة البرجوازية المركزية (تستولي على الموارد العامة متوسلة سلطة الدولة، وتتحكم بالتجارة الخارجية) استولى على الثروة الوطنية. تدمير البلد يغدو احتمالاً مرجحاً حين يعترض على المالك رعاع إرهابيون من عوام السوريين. القتل والتهجير هو مصير هؤلاء الإرهابيين، الذين ظهروا في بيئات أساسها الجهل والتخلف، على ما قال ممثل الأسرة التي تحكم البلد منذ 45 عاما في آخر خطبه، ولم تتوقف يوماً واحداً عن الثناء على إنجازاتها والإشادة بأفضالها على السوريين. الرجل أظهر استعداداً متفوقاً لأن يكون واشياً بمواطنيه أمام القوى الغربية النافذة، حين كرر اتهام كل الثائرين عليه بالإرهاب في خطابه، دون أن يذكر داعش أو القاعدة إطلاقاً.
كان حافظ محباً للسلطة، مكرساً لها فانياً فيها، مستعداً للتضحية بعشرات ألوف السوريين على مذبحها، أما بشار فهو حريص على السلطة حرصه على ميراث عائلي، لكنه محب جداً للمال ومباهج الحياة. الرجل شغوف بكاميرات التصوير المتطورة ومجلات التصوير المتخصصة، ولا تشغله الحرب التي أشعلها في البلد وأشعل البلد بها عن متابعة هوايته المكلفة، وتوصية شركائه التجاريين بتأمينها. أما زوجته أسماء الأخرس فتتسوق من أغلى محلات الموضة العالمية، وتشتري زوج الأحذية الواحد بألوف الدولارات. وأصدقاء الزوجين أثرياء عرب وأجانب، ويبدو أنهما يحبان صحبة المشاهير، والقول للعالم الغربي بخاصة أنهما منه وفيه.
بشار يحب أيضاً أن تعابثه نساء جميلات من حاشيته، الأمر الذي ربما يشير إلى حاجة لنيل الحب والاعتبار. وربما بداع من مقتضيات “العصرية” التي يحرص عليها كل الحرص، ومنها خفة الدم، يتداول في بريده الالكتروني نكتاّ عنصرية تافهة عن الحماصنة (أهالي حمص)، مستواها السياسي والأخلاقي لا يرتفع عن مستوى هتاف شبيحته في تجمعاتهم المحمية في عام الثورة الأول: الما بيشارك/ أمّو حمصية!
هذه العناصر الاجتماعية والنفسية تساعد في رسم صورة الابن الوريث الذي سيدخل التاريخ على الأرجح بأنه مدمر بلده وقاتل مئات الألوف من سكانه. خصائص بشار الشخصية، إضافة إلى كونه ممثل أسرة وسلالة وطبقة، لها الإسهام الأكبر في الكارثة السورية المتمادية.
في مسعاه لحماية ملك الأسرة، انساق الوريث إلى دعوة الإيرانيين وأتباعهم العراقيين واللبنانيين والأفغان وغيرهم لقتل محكوميه الثائرين. مثل سلالات حاكمة كثيرة في التاريخ حاول إنقاذ ملكه بتسليم البلد للأجانب. قد لا يُسقِطه الثائرون عليه، لكنه فقد السلطة نهائيا. لم يعد يستطيع أن يحكم ما قد يحكمه من سوريا دون احتلال أجنبي، له السيادة والسلطة العليا. لكنه سينال المال ما بقي حياً، سواء بحماية حراب “إيران الشقيقة” أو في منفى ما.
هذا ما أراده، وهذا ما يستحقه.
ياسين الحاج صالح –  القدس العربي

0 التعليقات Blogger 0 Facebook

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

 
Syrian Revolution in Switzerland © 2018. جميع الحقوق محفوظة. اتصل بنا
Top