"كنا نحاول جاهدين أن نعامل جثث المعتقلين بإنسانية إلا أن أصوات المحققين كانت تمنعنا من ذلك، فكنا نلقي الجثث فوق بعضها كيفما اتفق كي لا ننضم إليهم". 

هكذا عبّر معتقل سابق عن تجربته القاسية في "سخرة الموتى" -كما أسماها- والتي كان يقوم فيها مع عدد من رفاق زنزانته بإخراج جثث من قضوا تحت التعذيب أو جراء إصابتهم بمرض السل أو اليرقان لتعبئتها في سيارة الموتى (كيا براد) في الفرع (227) بدمشق، وكان معتقلو السخرة يُنزلون، لسبب مجهول، جثثاً من تلك السيارة إلى الطابق السفلي في الفرع ثم يعودون بعد فترة لنقلها إلى السيارة ذاتها، ومن ثم نقلها إلى "خطوط الدفاع" ليتم تصويرها على أنها جثث إرهابيين قضى عليهم "بواسل الجيش السوري".

كان "عبد السلام الحمصي" يعمل ناشطاً يصور الأحداث في حمص ويراسل القنوات التلفزيونية قبل أن يُجري عملية تسوية في بداية العام 2013، ولم يكن مطلوباً إلى أن أُلقي القبض عليه بتاريخ 1/6/2014 وعندما تم "تفييش" اسمه اعتُقل في الفرع 227 بدمشق، وهناك شاهد وعايش –كما يقول- "ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على بال بشر".

ويضيف الحمصي لـ"زمان الوصل" مستعيداً بداية دخوله المعتقل:"عندما دخلت إلى الفرع كان هناك عدد كبير من المعتقلين كل واحد منهم يجلس على بلاطة، وما إن استلمت "بلاطتي الجديدة" حتى سُرقت ثيابي ولم يبق لي سوى الثياب الداخلية"، ولم يكن الذهاب إلى التواليت بالأمر الهين بل دونه الضرب والذل والإهانات من قبل السجانين الذين كانوا يمتنعون عن إعطائنا الماء كي لا نضطر للدخول إلى هذه التواليتات.

تحميل جثث
عندما اقترب السجّان من المساجين ليسألهم عمن يرغب بالخروج في السخرة لم يكن من الحمصي إلا أن أجاب بالموافقة ليكتشف فيما بعد أن السخرة تتمثل بتحميل جثث الموتى، ويضيف: "طلبوا منا أن ننزل إلى قبو تحت الفرع لإحضار الجثث رغم أننا كنا في قبو تحت الأرض إلا أننا اكتشفنا بوجود قبو آخر تحت زنزاناتنا" 

ويتابع محدثنا:"كان هناك باب صغير داخل الفرع يسمح بدخول شخص وبعدها يقابل النازل درج ملتف (حلزوني) يتجه إلى الأسفل بعرض نصف متر".

ويضحك محدثنا وهو يشبه المكان بقلعة "روبن هود" في برامج الأطفال، وكان على كل درجة –كما يقول-مساجين من الضباط والعساكر ولكنهم كانوا مدعومين "كنا نحسدهم على المكان الواسع الذي يجلسون فيه".

وإلى الأسفل منهم –كما يشرح الحمصي- "كانت المنفردات وهي تسمية مجازية لأن كل واحدة من هذه المنفردات لم تكن مساحتها تتجاوز المتر ونصف ورغم ذلك يُزج فيها 8 معتقلين". 

ويمضي المعتقل السابق وهو يتذكر الزنازين وكأنه يستعيد شريطاً سينمائياً مرعباً "عندما فتح باب أحد المنفردات وجدنا جثة، فطلب منا السجانون أن نخرجها إلى الأعلى، وكانت مهمتنا صعبة جداً–كما يقول- لأننا كنا نتحاشى الضباط المسجونين ونحن نحمل جثة إنسان ولم يكن هؤلاء يتوانون عن ضربنا لدى أي تماس معهم بسبب ضيق المكان".

نعرفهم من أحذيتهم
على باب الفرع كانت سيارة نوع "كيا" براد متوقفة، وكان هناك عدد من عناصر الفرع الذين، ولم يكن معتقلو السخرة يجرؤون على النظر إلى وجوههم بل يعرفونهم من أحذيتهم كما يقول الحمصي :"طلب منا أحدهم أن نفتح باب السيارة وعندما فتحناه كان المنظر مرعباً، فالجثث كانت مكدّسة فوق بعضها البعض، وكانت هذه الجثث مرقمة -كما في صور قيصر المسربة (الصور أدناه)- ويتابع محدثنا: "طلبوا
منا أن نسطّر-أي نرتب- الجثث- وحاولنا -كما يقول- أن نتعامل مع هذه الجثث بإنسانية إلى أن صرخ فينا أحد السجانين :"أسرع يا ابن الـ.. -شتيمة من العيار الثقيل- "فأصبحنا نرتّب الجثث بعنف ونشبك أيديهم ببعض حتى لا تقع، وبعد حوالي ساعة انتهينا من نقل كل الجثث من المنفردات" ولفت محدثنا إلى أن السجانين كانوا يطلبون منهم أن ينزلوا بعض الجثث من السيارات إلى المنفردات وبعد عدة أيام يطلبون إخراجها إلى السيارة وأردف "لم نكن نعرف القصد من هذا الأمر وأغلب الظن أنهم كانوا يشرّحون هذه الجثث لسرقة أعضائها لأننا كنا نرى آثار إخاطة طولية على صدور وبطون هذه الجثث". 

بعد فترة تم إحالة "أبو عبد السلام الحمصي" إلى فرع الأمن العسكري في حمص وهناك سأله ضابط في الفرع عن تهمته فقال له–كما يروي– أنا عامل تسوية –وهنا انفجر الضابط في وجهه وشتمه قائلاً: "... فيك وبالتسوية وباللي عمل التسوية واللي طالع التسويات وبالحكومة اللي عم تعملكم تسويات" وتابع الضابط المذكور "إن شاء الله مفكرنا أنو نحنا مع بشار الأسد".

ماء بطعم الصدأ
رفض الحمصي الاعتراف فطلب منه الضابط أن يقف على حائط عليه شوفاج ومضى عليه عشر ساعات وهو واقف على قدميه، وعندما تململ-كما يقول- ضربه على وجهه ببوري ماء بلاستيكي كان المعتقلون يسمونه "الأخضر الإبراهيمي" نظراً لونه، وكان هذا البوري يمثل عقدة لكل المعتقلين".

بعد أيام من وقوفه بجانب الشوفاج شعر الحمصي -كما يقول- بعطش شديد "صرت أبحث عن طريقة للشرب وفجأة انتبهت لـ"عزقة" في الشوفاج ففكتها بأسناني لأن يديّ كانتا مكبلتين إلى الوراء".

وتابع: "بدأت أشرب ماء كان بطعم الصدأ، ولكنه كان يروي عطشي وبقيت أشرب منه لمدة 20 يوماً بحذر خوفاً من أن يراني المحقق".

ويستدرك محدثنا قائلاً: "أمضيت الأيام الثلاثة الأولى بلا نوم، وحينها صرت أفصل" – أي أني كنت أغيب عن الوعي وأعيش بما يشبه الغيبوبة.

ويقول:"كنت أتخيّل مشاهد غرائبية فأرى الناس بمثابة دلافين ورأيت أحدهم يضع خساً في قدمي" وعندما أفقت من غيبوبتي وجدت قدمي متورمة فعلاً "صارت متل البالونة وبدت أصابعها كثآليل خارجة منها، وحينها لم أعد أعرف إن كنت صاحياً أو غائباً عن الوعي". 

بعد فترة من التعذيب تم عرض الحمصي على محقق ربط يديه إلى الخلف ورفعه منهما للأعلى"، "لم أتحمل التعذيب أكثر من ربع ساعة فاعترفت عما فعلته ومالم أفعله دون ذكر أسماء وعندما كان يضغط علي للاعتراف بالأسماء كنت أزوّده بأسماء أشخاص خارج البلد". 

وكشف الحمصي أن محققي الأمن العسكري في حمص "كانوا يتفننون بدمج الكفر مع الشتائم الجنسية مع مسبة العرض واستخدام اعضاء الحيوانات التناسلية .. بكلمتين". 

بعد البصم على أقواله تم تحويل المعتقل الشاب إلى الفرع (215)، وهو إدارة الأمن العسكري في دمشق، وهناك -كما يقول- استلم بلاطته في غرفة يُطلق عليه "غرفة العزل" وكانت مخصّصة لوضع الموتى ومن يلفظون أنفاسهم الأخيرة كي يموتوا "بسلام" حسب تعبير محدثنا- الذي أشار إلى أن "أغلب الوفيات في الفرع (215) في العام 2014 كانت بسبب اليرقان والإسهال، وكان المصابون بالإسهال يموتون بعد 3 أيام من الإصابة غالباً".

ومن أصعب المواقف –كما يقول- أن يموت أحدهم مقابلك ويمضي عليه ساعات قبل أن يتم حمله إلى غرفة الجثث التي كانت تستقبل بحدود 15 جثة يومياً.

من الموت إلى الحياة 
ويواصل الشاب الحمصي وصف مراحل رحلته الماراثونية  في سجون النظام حيث تم تحويله –كما قال إلى سجن عدرا.. وهناك كانت  كل غرفة –بحسب محدثنا- تكتظ بـ100 معتقل مما أضطره ورفاقه للنوم بشكل " تسييف- ويشرح محدثنا المقصود بالكلمة التي تعني النوم معاكسة كي لا نأخذ مساحة، ولكل معتقل ثلاث بلاطات، وهذا كان يُشعر هؤلاء المعتقلين بأنهم في فندق خمس نجوم –حسب وصف الحمصي –الذي أشار إلى عرضه على القاضي بعد ثلاثة أشهر من مكوثه في سجن عدرا ويردف :" قال لي المحقق وقبل أن يكمل قلت له لا تكمل يا سيدي أنا ارتكبت كل الجرائم المذكورة لديك" ويبدو أنني ارحته بإجابتي فطلب مني البصم على أقوالي ففعلت، وحينها –كما يروي محدثنا – قال له القاضي أنت موقوف من جديد بعدرا..

ويتابع المعتقل السابق :"مضى عليّ بعدها سنة وأربعة أشهر موقوفاً في عدرا إلى أن أتى إخلاء سبيلي مع عدد من رفاقي فجأة فقال لنا السجانون سنأخذكم إلى  فرع ادارة المخابرات العامة لإجراء تسوية بشأنكم ويردف الحمصي: "بعد 20 يوم من مكوثنا وتعرّضنا لأبشع أنوع الإذلال والتعذيب في الفرع اقتادونا  إلى محكمة الارهاب وهناك جاء وزير العدل والمصالحة وألقى علينا محاضرة في " الوطنية" وبعدها أجرينا تسوية وأُخلي سبيلنا. زمان الوصل


0 التعليقات Blogger 0 Facebook

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

 
Syrian Revolution in Switzerland © 2018. جميع الحقوق محفوظة. اتصل بنا
Top