منذ انكفائه إلى قصرهِ، بعد عام تقريباً على انطلاقة الثورة في سوريا، وفي كل ظهورٍ إعلامي، حاول الأسد أن يبدو متماسكاً، رابط الجأش ومتفائلاً بالمستقبل.
عادةً ما يجلس أمام محدّثه في غرفة مغلقة (غالباً بدون شبّاك) ليقوم بتوجيه رسائل الأمل (المدروسة جيداً) بنصرٍ قريب للموالين له داخل وخارج الحدود. ومع كل ظهور كان الإحساس الجمعي لمعارضيه من السوريين، يشي بأنه في مقابلته، يجلس الأسد معزولاً كسوري، هكذا وحده أمام طاقم التصوير، وأن هناك خارج كادر الصورة لا بدَّ يقف عدد من الحراس والمستشارين الإيرانيين. وحتى الموالون له لم تكن تعليقاتهم تخلو من بعض الشكوك حول تلك الطمأنينة الزائفة التي كان يجهد أن يبديها.
الطرفان الموالي والمعارض كانا يشتركان بمعرفة أكيدة، رغم أنها ليست موثقة، بأن تلك المقابلات الاحترافية ومع كبريات الصحف أو القنوات العالمية، إنما هي حاجة ماسّة لنظامٍ لا يبدو في أفضل حالاته، ولرئيس يهذي بأحلامه في أفضل التوقعات، أو أنه يهرف بما لا يعرف، في الحالة الأسوأ.
كان جليا أن الهدف الأهم لتلك المقابلات هو بيع أمل زائف لمواليه، وإدخال بعض اليأس (لم تكن المحاولة ناجحة في معظم الإطلالات) لمعارضيه، عبر إشعارهم وعلى نحوٍ غامض ومُشوَّش بعناصر قوةٍ، لم يلمسوها حقيقةً على الأرض في العديد من المحطات، وحقيقة الأمر أن عناصر القوة تلك كانت خارجية ووافدة من خارج الحدود، ولم يكن لا هو ولا ضباطه يسيطرون على معظمها.
وفي النهاية كان القاسم المشترك هو تندرهم مجتمعين، موالاة ومعارضة، بأن تلك الظهورات الإعلامية، قد تكون كلفت موازنة القصر الرئاسي مبلغاً لا يستهان به.
استطاع الأسد لفترة ليست بالقليلة تسويق فكرة أنه الأكثر قدرة على حماية التنوع الطائفي في سوريا، وهي فكرة جذابة، وتلقى صدى طيباً في المجتمعات العالمية، وبشكل خاص في دوائر صنع القرار، التي تعتمد، كما تدّعي، حماية الأقليات كمحورٍ يؤخذ في الحسبان، في سياساتها الخارجية. ولكن، وعلى نحو لم تكن تتوقعه الدوائر الضيقة المحيطة بالأسد، بدأت في الفترة الأخيرة الشكوك تأكل من فكرة الأسد رغم ذكائها. فحتى في صفوف الأقليات بدأ هناك شعور يتنامى (هو لم يغب نهائياً ولا للحظة) بأن الأسد لم يعد قادراً حتى على حماية كرسيه الذي بدأ بالاهتزاز، فضلاً عن قدرته على حمايتهم. وبدأ الكثيرون، وخاصة في أوساط النخبة المؤثرة، يبدون الكثير من الشكوك حول قدرات الأسد المحروس أصلاً بقوات خارجية بل ويذهب بعضهم أبعد من ذلك فيرى (طبعاً بترددٍ) أن جيشاً معارضاً منظماً ومحترفاً، تبدو ملامح تشكله في جنوب سوريا، قد يكون بديلاً ممكناً لحماية التنوع الطائفي في سوريا، خاصة لجهة ضبط مرحلة انتقالية لا بد أنها ستكون صعبة.
ويرون أن هذا الجيش، وبخلاف باقي التنظيمات الإسلامية "الإرهابية" المتشددة، يبدي الكثير من الحرص على القيم التي تراعي التنوع السوري. سيّما وأنه قد اجتاز أكثر من اختبار حاسم، خصوصاً في الفترة الأخيرة.
على الأرض وبشكل خاص في دمشق لا يمكن لأي مراقبٍ، ولو كان موالياً للأسد، بل وحتى لو كان من جنوده أو ضباطه، إلا أن يلحظ بأن حماية العاصمة، حيث مركز الأسد الذي لا يبعد كثيراً عن المقاتلين المناوئين له، بل وحتى حماية بقاء الأسد شخصياً في قصره، بات أمراً منوطاً بميليشيات أجنبية تنتشر في كل المفاصل الهامة، تراقب الوضع في العاصمة، بل وحتى تراقب جنود وضباط الأسد أنفسهم.
في جلساتهم الخاصة والمغلقة، وحين يتأكد ضباط الأسد تماماً أن الحيطان بلا آذان، ستتغير لهجتهم وحتى محاور حديثهم، ليعتريها الكثير من الشكوك التي تكتنف مستقبلهم في ظل السطوة الأجنبية، وخاصة الإيرانية المباشرة أو غير المباشرة، عبر مقاتلي حزب الله وغيره من الميليشيات القادمة من خارج الحدود، والتي باتت تحوطهم وتحوط كل تحركاتهم وتحكمها.
قد يتجرأ أحد الضباط، وبدوافع لن تخلو من الوطنية السورية، على إبداء تخوفه على مستقبل استقلال سوريا، في ظل كل تلك التبعية العسكرية وحتى السياسية لتعليماتٍ تأتي عابرة للحدود، وقد يصل الأمر أحياناً، وفي حالات الشعور الأقصى بالطمأنينة لمستمعيه، أن يعبر أحد الضباط (متفقاً، للمفارقة مع ما يطرحه المعارضون منذ بداية الثورة) بأن فكرة حماية الأقليات، كانت فكرة زائفة، سوَّقها الأسد ومستشاروه الخارجيون، فقط بهدف حماية كرسيه، وسوف يصل للاستنتاج النهائي بأن البلد ومقدراته، والجيش بشكل خاص، قد أمسوا جميعاً تحت الوصاية الخارجية، وأن وجود الأسد لم يعد سوى ديكور شكلي، والمهمة الوحيدة المناطة به، هي التغطية على متابعة الابتلاع المتسارع لسوريا.
في دمشق سيلحظ العابر أن وجوه السكان المتعبة (بمن فيهم حتى الجنود والضباط السوريون في جيش الأسد) وتعليقاتهم الغامضة بعض الشيء، لم تعد تشي بأيٍ من أنواع الطمأنينة، التي كانوا يتكئون عليها (نسبياً) في العامين الماضيين. وسوف تكشف تعليقاتهم الساخرة أن السؤال لديهم لم يعد:
هل سيرحل الأسد؟ لقد تحول السؤال وعلى نحوٍ يقيني إلى: متى سوف يرحل؟
|
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
0 التعليقات Blogger 0 Facebook
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.