img

من المؤكد ان مشهد الجسد الهامد للطفل إيلان الكردي على الساحل التركي ليس الابشع بين مشاهد الموت اليومية في عالمنا العربي والإسلامي، ولكنه مؤشر لما آلت اليه اوضاع الشعوب في ظل انظمة القمع والاستبداد وقوى التطرف والإرهاب. ولولا ذلك لما فقد عبد الله الكردي ولديه وزوجته غرقى في ظلمة الليل في بحر ناء عن مسقط رأسهم. وكما كان مشهد الطفلة الفيتنامية التي تهرب هلعا من قنابل النابالم الأمريكية في هانوي محركا للتظاهرات والاحتجاجات المناوئة لتك الحرب، ومشهد الطفل محمد الدرة مقتولا مع والده صاعقا فجر مشاعر غضب ذوي الضمائر في هذا العالم، فكذلك كان الجسد الناعم الصغير على ساحل البحر التركي سببا لمشاعر العطف والشفقة على مصير هؤلاء البشر الذين تشتتوا في الاصقاع بحثا عن مأوى
القصة ليست جديدة، بل تتجدد فصولها بين الحين والآخر. هذا التجدد يؤكد استمرار الازمة السياسية والاخلاقية في عالم اليوم، ويكشف المزيد من النفاق السياسي الذي يعشش في عالم السياسة ودهاليز السلطة. فظاهرة اللجوء إلى الغرب، خصوصا أوروبا، ليست جديدة، بل ان تدفق اللاجئين ظاهرة مضى عليها اكثر من اربعين عاما، حتى اصبحت في الثمانينات مثيرة لجدل واسع في الاوساط السياسية والنخبوية الغربية، وبرزت أسماء معارضة لاستقبال اللاجئين في العواصم الاوروبية. ففي فرنسا ارتبط اسم جان ماري لوبان، زعيم الجبهة الوطنية، بالعنصرية ورفض اللاجئين. وفي بريطانيا كان اينوخ باول رمزا قويا في اوساط حزب المحافظين، لرفض اللاجئين والتحذير من فتح الابواب لهم. وكثيرا ما ارتبطت ظاهرة رفض اللاجئين بالعنصرية واليمين المتطرف. ولا يمكن فصلها عما جرى قبيل الحرب العالمية الثانية عندما استهدف اليهود في المانيا وتمت تصفية اكثر من مليونين منهم. وظاهرة رفض اللاجئين تتخذ احيانا وجوها اخرى. فالإسلاموفوبيا، اي التخويف من الإسلام، تصاعدت في الاعوام الاخيرة، خصوصا بعد انتشار مجموعات التطرف والإرهاب مثل داعش. ولا تنفصل الإسلاموفوبيا عن ظاهرة “التنميط” التي كانت سائدة قبل تنامي الصحوة الإسلامية، حيث كانت صورة العربي ترتبط بالجمل تارة والزواج من الاربع تارة اخرى. وتواصل ذلك التنميط حتى اصبح العربي او المسلم يعني في الوجدان الشعبي الغربي التطرف والعنف والإرهاب. وكثيرا ما اثيرت الضجة ضد الوجود العربي  الإسلامي في اوروبا. وتواصل ذلك حتى الآن. ولا بد هنا من الاشارة إلى اصرار رئيس وزراء المجر (هنغاريا)، فيكتور اوربان على رفض المسلمين بقوله: اعتقد ان لنا الحق ان نقرر باننا لا نريد عددا كبيرا من المسلمين في بلدنا”.
ان من الخطأ النظر إلى الضجة المثارة حالية في عواصم الاتحاد الاوروبي بانفصال عن الاوضاع السياسية بمنطقة الشرق الاوسط وشمال افريقيا على وجه الخصوص. فما من حرب إلا وينجم عنها لاجئون. هذا ما حدث في الحرب العالمية الثانية التي كان من نتائجها الكارثية احتلال فلسطين لإسكان اليهود الذين اضطهدتهم اوروبا وفرضت على العرب دفع ثمن ذلك الاضطهاد. ولا تغيب عن الذاكرة مشاهد “بشر القوارب” الفيتناميين الذين كانوا يبحثون عن ملجأ بعد نهاية الحرب الفيتنامية في 1975. وقد بلغ عددهم 800 شخص خلال العشرين عاما اللاحقة، قضى اغلبهم شهورا على ظهور القوارب التي تمخر بهم البحار والمحيطات بحثا عن ملجأ في دول جنوب شرق آسيا، تعرضوا خلالها للغرق والعواصف والجوع والعطش. اليوم تبدو ألمانيا الاكثر اهتماما بقضية اللاجئين، فتبادر رئيسة وزرائها، انغيلا ميركل، لفتح حدودها لهم، وهو تطور لا يفهم الكثيرون دوافعه. هذه القضية اصبحت تمثل ازمة لاوروبا، وتهدد سياسة الحدود المفتوحة في ما بين دول الاتحاد الاوروبي، في الوقت الذي تتباين فيه المشاعر إزاء الوجود الإسلامي المتنامي في هذه الدول. ثمة تساؤلات كبرى تطرح في هذا الجو المفعم بالتعاطف مع آلاف اللاجئين الباحثين عن مأوى هربا من جحيم الانظمة والمجموعات الإرهابية على حد السواء. لماذا يغامر الرجال مثل عبد الله الكردي باعز ما يملكون وهم يسمعون قصصا كثيرة لمن فقد حياته وهو يقطع المسافات بحثا عن ملجأ؟ فقاع البحر الأبيض المتوسط احتضن جثث الآلاف من الذين غامروا بحثا عن مكان يقيهم الموت المحتوم في بلدانهم؟ لماذا تخلت الدول التي تظاهرت بدعم قضيتهم عن توفير مأوى مناسب للفارين من الجحيم؟ لماذا قفزت فجأة قضية اللاجئين إلى صدارة الاخبار في اوروبا؟ أهي ظاهرة جديدة؟ ام هناك اهداف غير معلنة وراء ذلك؟ أوليس الغرب مسؤولا عن جانب كبير مما يحدث في البلدان العربية خصوصا في السنوات الاربع الاخيرة بعد قمع ثورات الربيع العربي؟ هل ان احتضان بضعة آلاف من اللاجئين هذه المرة سينهي ظاهرة اللجوء؟ أليس هناك ضرورة للتصدي لاسباب الظاهرة ومن ذلك احداث تغيير جوهري في نوعية الحياة السياسية التي تعيشها الشعوب العربية في ظل الاستبداد؟ أوليس الاستبداد، بعمومه، مسؤولا عن تداعي الأمن والاستقرار في المنطقة؟ وماذا عن الاحتلال؟ أليس ذلك سببا آخر للاحتقان والشعور باليأس والاحباط لدى قطاعات واسعة من ارباب العائلات الذين يسعون لضمان مستقبل آمن ومثمر لذويهم؟ فأهل غزة يعيشون في العراء منذ ان دمر الاسرائيليون منازلهم قبل اكثر من عام، وفشل العالم في توفير دعم يمكنهم من اعادة بنائها. أين الازمة؟ كيف يمكن فهمها؟ وإلى أين سيؤول مصيرها؟
على مدى السنوات الاربع الماضية كان الوضع السوري يمثل تحديا من نوع او آخر. في البداية كان نظام بشار الاسد يعتبر المشكلة الاساس بسبب ديكتاتوريته من جهة، وارتباطه بإيران والمقاومة من جهة اخرى. ثم ظهرت مشكلة داعش فاصبح الشام يمثل مصدرا لتهديد الأمن الاقليمي والاوروبي، حيث تدفق آلاف الشباب من اوروبا للالتحاق بصفوف داعش، الامر الذي ستكون له تبعات لاحقة على الأمن الاوروبي. واليوم تصبح سوريا مصدرا لمشكلة انسانية تتمثل بطوفان اللاجئين الهاربين من جحيم الحرب السورية التي قتل فيها حتى الآن اكثر من ربع مليون انسان، وادت لنزوح اكثر من 11 مليونا من منازلهم، منهم اكثر من اربعة ملايين خارج البلاد، وسبعة ملايين ونصف داخلها. ويعيش أقل من مليونين في تركيا، بينما توزع الباقون على الاردن ولبنان ومصر والعراق. والازمة مرشحة للتصاعد مع استمرار الحرب التي تزداد تعقيدا بمرور الوقت. ومن المؤكد ان صعود تنظيم داعش ساهم في تعقيد الامور وساهم في زيادة اعداد اللاجئين. فالعيش تحت حكم المجموعات المتطرفة لا يطاق. فقد شهد العراق نزوحا جماعيا من الموصل وتكريت والانبار، بعد سيطرة داعش عليها، فاحتضنهم اخوتهم في الوطن في بغداد والمدن الاخرى. بينما السوريون الهاربون من المناطق التي تسيطر عليها داعش او النصرة يتجهون للخارج. والمطلوب ان يتم التعاطي مع القضية بمنهجية واصرار على منع ظاهرة النزوح الجماعي. فهذه الظاهرة لم تتوقف في السنوات الاخيرة مع استفحال ظاهرة الاستبداد والحرب والتطرف والإرهاب. واليمن مرشح لأن يكون مثل سوريا، كمصدر للاجئين، ما لم يتبلور موقف دولي بشكل سريع لوقف الحرب والعمل لتحقيق حل سياسي تشارك فيه الاطراف جميعا. ولا يمكن ان يساهم التردد الغربي ازاء الازمات المستفحلة في سوريا والعراق وليبيا واليمن والمصر والبحرين، في تحجيم ظاهرة النزوح التي تدفع الكثيرين لطلب اللجوء في الغرب. فلكي يحدث ذلك مطلوب من الغربيين اعادة نظرهم في قضايا عديدة اهمها: اولا: الديمقراطية المغيبة عن المنطقة، والاستعداد للتعامل مع انظمة منتخبة من قبل شعوبها عبر المؤسسات الديمقراطية. ثانيا: التوقف عن دعم الاستبداد، وتشجيع التحول الديمقراطي واحترام حقوق الانسان، ثالثا: انتهاج سياسات انسانية تقلص ظاهرة الجشع والاستغلال التي تدفع الغربيين للتحاف مع الشيطان لجذب الاموال، والوفاء للقيم الديمقراطية والمواثيق الدولية. رابعا: عدم الاكتفاء بالتصدي للظواهر المرضية، بل محاولة استئصال المرض لمنع انتشاره.

القدس العربي

0 التعليقات Blogger 0 Facebook

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

 
Syrian Revolution in Switzerland © 2018. جميع الحقوق محفوظة. اتصل بنا
Top