المواد المنشورة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع ...
تاريخ النشر : 01.09.2015
يعتبر التطوُّر الأهم والأعمق أثراً في مسار "حزب الله" السياسي لبنانيًّا ثم سوريًّا، في شهر مارس/آذار 2011، مع اندلاع الثورة السورية. فتعرُّض نظام الأسد للتهديد، عدَّه الحزب وراعيته إيران تهديدًا مباشرًا لهما أيضًا، لأسباب عديدة منها؛ 1. أن سورية تُشَكِّل بالنسبة إلى إيران ممرًّا إلزاميًّا نحو لبنان، وحدوده الجنوبية التي تسمح لطهران بالقول: إنها على تماسٍ مباشر (من خلال حزب الله) مع إسرائيل. 2. أن سورية منفذٌ إيراني على البحر المتوسِّط، وهي الدولة الحليفة الوحيدة لطهران منذ عام 1980؛ إذ إن باقي الحلفاء في المنطقة هم أحزاب ومنظَّمَات سياسية عسكرية. 3. صارت سورية -منذ عام 2003 مع تقدُّم إيران عراقيًّا عبر حلفائها إثر إسقاط الأميركيين لصدَّام حسين-عقد القوس الرابط طهران استراتيجيًّا -وفي مدًى ترابي متواصل-ببيروت.
وقد جاء دعم "حزب الله" لنظام الأسد على مراحل:
في المرحلة الأولى، مرحلة مارس/آذار 2011 ولغاية يناير/كانون الثاني 2012، وضع الحزب ماكينته الإعلامية و"رأسماله الرمزي" (الذي كوَّنه عربيًّا وفي أوساط يسارية غربية لمقاومته إسرائيل) في خدمة نظام الأسد، متحدِّثًا عن مؤامرات خارجية تستهدفه، ومقلِّلاً من شأن المظاهرات السلمية ضدَّه، نافيًا الجرائم التي يرتكبها. وفي الوقت ذاته دفع الحزب بمقاتلين إلى بعض المناطق السورية القريبة من حدود لبنان لمنع تسلُّل منشقِّين وناشطين معارضين، ولحراسة مستودعات أسلحة إيرانية عائدة إليه ومخزَّنة في الأراضي السورية.
وفي المرحلة الثانية، مرحلة فبراير/شباط ولغاية أغسطس/آب 2012، استمرَّ "حزب الله" في التعامل إعلاميًّا مع ما يجري في سورية بوصفه مؤامرة خارجية؛ لكن معارك حي بابا عمرو في حمص، ثم اقتحام المعارضة السورية للأحياء الجنوبية للعاصمة دمشق، وسيطرة المعارضين على بعض الأحياء شرقي مدينة حلب، وخروج مناطق عديدة على أطراف البلاد عن سيطرة جيش النظام لم تسمح له بالاستمرار في التقليل من حجم الأحداث، فبدأ يُمهِّد للحديث عن حرب تُشَنُّ على محور المقاومة بأسره، وعن "استهدافٍ للأسد بسبب دعمه لحزب الله في حرب يوليو/تموز 2006 وقبلها".وفي الفترة عينها، ظهرت لأولِّ مرَّة في بلدات جنوبية وبقاعية لبنانية لمقاتلين من الحزب ذُكِر أنهم "سقطوا خلال تأديتهم الواجب الجهادي.
أما في المرحلة الثالثة، مرحلة سبتمبر/أيلول 2012 ولغاية يونيو/حزيران 2013، فقد شهدت الساحة السورية تصعيدًا عسكريًّا كبيرًا تغيَّرت معه معالم الصراع؛ ذلك أن النظام الذي فقد خلال أشهر نصف مساحة البلاد تقريبًا كان قد بدأ استخدام طيرانه وصواريخه البالستية (سكود) وترسانته الكيماوية ضد المدنيِّين والمقاتلين، وكان قد بدأ أيضًا -بمساعدةٍ وتوجيهٍ إيرانيَّيْنِ- تدريب ألوف الشبَّان وتشكيل ميلشيا "الدفاع الوطني" الموالية له... فكان أن عدَّل حزب الله مرَّةً ثالثة تعاطيه الإعلامي السياسي مع الواقع السوري؛ إذ بات تركيزه ينصبُّ على ثلاثة أمور:
1. التحذير من "الهجمة السعودية-القطرية-التركية على سورية والمقاومة".
2. إكثار الحديث عن دور جبهة النصرة (المتزايد حضورها ميدانيًّا) في قتال النظام بوصفه تهديدًا إرهابيًّا لسورية ولبنان.
3. التأكيد على عزمه التدخُّل في منطقة وادي العاصي بحمص لحماية لبنانيِّين مقيمين داخل الأراضي السورية من ناحية، واستباق تهديد المناطق اللبنانية المحاذية في البقاع الشمالي من ناحية ثانية.
4. كما جرى الترويج في الفترة عينها -في لبنان وفي العراق-لأخبار عن تهديدات تتعرَّض لها المقامات الشيعية في محيط دمشق، لاسيَّما مقام السيدة زينب، وجرى تشكيل مجموعات عسكرية للتمركز في هذه المقامات بذريعة حمايتها؛ مما أدَّى إلى ظهور شعارات مذهبية جرت التعبئة القتالية على أساسها.
5. وخاض حزب الله أولى معاركه الكبرى في سورية في أواخر المرحلة الثالثة؛ إذ اقتحمت قوَّاته مدينة القصير وسيطرت عليها بمساعدة طيران النظام ومدفعيته، كما سيطرت على البلدات الواقعة بين حدود لبنان ومدينة حمص (ضمن خطة حماية العاصمة دمشق عبر ربطها بالساحل السوري وبالبقاع الشمالي اللبناني).
بعد يوليو/تموز 2013 دخل حزب الله في مرحلة سوريَّة رابعة، فتضاعف حضوره على الجبهات؛ ليصبح ابتداءً من ربيع عام 2014 القوة العسكرية الأبرز في معسكر النظام. وفي هذا السياق، وضعت إيران طائرات صغيرة بلا (طيَّار) تحت تصرُّف قوات الحزب اللبناني، لاسيَّما في المعارك حول دمشق وعلى مقربة من الحدود اللبنانية.
وفي هذه المرحلة الرابعة برز عنصر جديد على الساحة السورية؛ تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام"؛ الذي استقطب معظم الجهاديِّين الأجانب الذين كانوا في الأراضي السورية.
وقد مدَّ دخول تنظيم "الدولة" على خطِّ الصراع السوري حزب الله وإيران بذرائع إضافية لتبرير القتال في سورية، وللتدخُّل المباشر في العراق، فاستخدما الأمر بوصفه أبرز أسباب انخراطهما، كما عمد حلفاءُ "حزب الله" المسيحيون في لبنان إلى اعتبار قتاله في سورية حمايةً لوجودهم من خطر التهجير؛ وذلك على الرغم من أن خريطة المعارك التي يُشارك فيها الحزب أو يقودها تخلو في أغلب مواقعها من وجود تنظيم "الدولة".
يستمر "حزب الله" اليوم في توسيع نطاق قتاله في سورية، ويُعتقد أنه دفع بقوَّات إضافية بلغت ذروة تعبئتها في شهر مايو/أيار المنصرم في منطقة القلمون وفي جرود عرسال (على حدود البلدين). يرافق ذلك استخدامٌ دائم في وسائل إعلامه لمقولة: "قتال التكفيريين الإرهابيِّين" بديلاً عن سائر المقولات؛ بما يُتيح تدعيمًا لموقف الحزب في بعض الأوساط المسيحية اللبنانية، ومُفاضلةً أميركية وغربية بينه وبين خصومه المزعومين تُبَيِّضُ صورته، وتجعله وإيران "مقاتلين للإرهاب".
آثار قتال حزب الله في سوريا لبنانيًّا
في موازاة القتال في سورية وربطًا به، شهد لبنان تطوُّرات دراماتيكية تمثَّلت بتدفُّق مئات ألوف اللاجئين السوريين وألوف الفلسطينيين السوريين؛ خاصة من محافظات دمشق وحمص وإدلب ودرعا، وبعض هؤلاء وصل بعد انخراط "حزب الله" الواسع في القتال في مناطقهم، وشهد لبنان كذلك -في صيف العام 2013، سلسلة تفجيرات استهدفت مدنيِّين في مناطق ذات أكثرية شيعية، واستمرَّ مسلسل التفجيرات هذا حتى مطلع عام 2014. وقد تبع ذلك تعاون وثيق بين الأجهزة الأمنية اللبنانية وأجهزة "حزب الله" حال دون تفجيرات إضافية.
وفي الوقت نفسه، عرف لبنان توتُّرات أمنية متنقِّلة بين صيدا وطرابلس وعرسال، واستقالت حكومته التي سبق أن أعلنت حيادًا تجاه الأوضاع السورية لم تترجمه إلى واقع ملموس في ظل سياسات "حزب الله" وانحيازاته الميدانية، وجرى بعد أشهر طويلة تشكيل حكومة جديدة (برئاسة المستقلِّ تمَّام سلام) عادت إليها بعض قوى 14 آذار؛ وذلك نتيجة تفاهم ضمني بين "حزب الله" والحريري (ومن خلفهما إيران والسعودية) على تجميد الصراعات السياسية لبنانيًّا بسبب خطورة الأوضاع، وعلى تأجيل الانتخابات النيابية إذا تعذَّر الاتفاق على قانون انتخاب جديد.
وفي مايو/أيار 2014، انتهت ولاية رئيس الجمهورية ميشال سليمان، ولم ينجح البرلمانيون بعدُ في انتخاب بديل له بسبب غياب التوافق من جهة، وبسبب مقاطعة نواب "حزب الله" وقوى 8 آذار للجلسات النيابية الانتخابية، ومنعهم بالتالي النصاب القانوني من جهة ثانية.
هكذا دخل لبنان أزمة حكم تُضاف إلى أزماته السياسية والاقتصادية والأمنية، ولا يبدو أنه جاهز للخروج من الأزمة المذكورة لأسباب عديدة؛ منها ربط النزاع فيه بمآل الأمور في سورية وفي المنطقة عمومًا، ومنها عجز النظام السياسي عن إدارة النزاعات، والدفع في اتجاه الحلول لافتقاده المرونة اللازمة.
ختاماً: تشير المؤشِّرات الميدانية والخطاب السياسي والمُعطيات الإقليمية والدولية إلى أن الأمور ذاهبة إلى المزيد من التصعيد سوريًّا (وعراقيًّا)، وإلى استمرار المراوحة وتنقُّل الأزمات لبنانيًّا.
وتسمح مجريات الأحداث في السنوات الماضية والأوضاع الراهنة باستنتاج عددٍ من الأمور:
أولاً: أن "حزب الله" فرض خياراته الخارجية على الاجتماع السياسي اللبناني من خلال حربه السورية، وهذا يُحيل إلى أمرين:
1. فائض قوة الحزب واستعداده لاستخدام العنف ضدَّ خصومه اللبنانيِّين إن عارضوه.
2. النظام اللبناني الذي وصل في ظلِّ الضعف المسيحي والقسمة السُّنِّيَّة الشيعية الطاغية ومشروطية الفلسفة التوافقية حول أكثرية الثلثين في الاستحقاقات الكبرى إلى حالة من الشلل المعمَّم. فأكثر من عامٍ مضى على شغور الكرسي الرئاسي، وأكثر من عام مضى -أيضًا-على انتهاء ولاية المجلس النيابي الذي جدَّد لنفسه، وأكثر من حكومة سقطت في السنوات الخمس الأخيرة، وتطلَّب تشكيل بديلٍ عنها أشهرًا طويلة، وهذا كلُّه يؤدِّي إلى غياب قيادة فعلية للدولة وغياب قرار، يستفيد منه "حزب الله" ويعمل على إطالة أمده.
ثانياً: أن الحزب دخل في حرب استنزاف سوريَّة طويلة لا يستطيع رغم قوَّته ودعم إيران له ونجاحه في تعبئة أنصاره اختيار "مواصفاتها" أو شروط نهايتها؛ ذلك أن ارتفاع خسائره المضطرد مع تصاعد مشاركته في القتال والاتِّساع التدريجي منذ عام 2013 للرقعة الجغرافية التي يُغَطِّيها بدأ يتسبَّبُ له بالإنهاك، وكلُّ مكابرة في نفي ذلك تورِّطُه أكثر وتزيد من خسائره في سورية وذلك تاليًا من توتُّره في لبنان، ولا شكَّ أن ما نُقل عن أمينه العام حسن نصر الله في شهر مايو/أيار الماضي من تخوين واتهامات بحقِّ خصومه داخل الطائفة الشيعية وخارجها، ومن تعهُّدٍ بمواصلة القتال ولو "سقط نصفنا"؛ يُشير إلى مقدار التوتُّر الناجم عن بداية الإنهاك.
ثالثاً: أن الاحتقان المذهبي في المنطقة بأسرها ومن ضمنها لبنان مرشَّح للتفاقم، وأن السياسة التوسُّعية الإيرانية، وإصرار طهران عليها عشيَّة استحقاق توقيعها النهائي للاتفاق النووي ستدفع دولاً مثل السعودية وقطر وتركيا إلى مضاعفة الجهود لاحتوائها، أقلُّه في سورية (بعد التدخل العسكري السعودي المباشر في اليمن)، وهذا سيُترجَم على الأرجح دعمًا متعاظمًا لفصائل معارضة تواجه بقايا النظام وحُماته الإيرانيين واللبنانيين والعراقيين.
بذلك، يصعب توقّع تهدئة عسكرية أو تسوية سياسية في المدى المنظور؛ ممَّا سيبقي الساحة السورية ساحة حرائق تستنزف جميع المقاتلين فيها، وفي طليعتهم "حزب الله". والأمر يعني بالتالي -إضافة إلى الخسائر العسكرية والإنهاك والتشنُّج السياسي وحملات التخوين-المزيد من الكوارث الإنسانية، وفي مقدِّمتها اللاجئين السوريِّين الذين يعيش قسم كبير منهم في لبنان في ظروف بالغة الصعوبة.
تاريخ النشر من المصدر : 11.06.2015
المصدر : مركز الجزيرة للدراسات
الرابط:
0 التعليقات Blogger 0 Facebook
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.