في الفترة ما بين 7-9 أيلول/سبتمبر الحالي شهدت منطقة الشرق الأوسط عاصفة رملية أضافت في سوريا تحديدا لمصاعب ومآسي السوريين الهاربين من جحيم الحرب.
وأعطتهم في الوقت نفسه فرصة لالتقاط الأنفاس من القصف الجوي المستمر الذي تقوم به طائرات النظام السوري لبشار الأسد وبراميله المتفجرة. فيما يمتع «تنظيم الدولة» بفترة هدوء قصيرة من غارات التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة. وقدمت العاصفة الرملية الضخمة صورة مجازية عن الحرب الوحشية الفوضوية التي مضى عليها أكثر من أربعة أعوام ولا تزال تجذب إليها أسلحة جديدة ولاعبين جددا وتصدر يوميا موجات هجرة جديدة.
تلاشي الآمال
وترى مجلة «إيكونوميست» في عددها الأخير أن «الاستقطاب المر» بين اللاعبين المحليين ورعاتهم الدوليين قضى على كل فرصة لتحقيق السلام.
ففي الشهر الماضي تكثفت الجهود الدبلوماسية وبدا أن هناك تقارب في مصالح اللاعبين الكثر على الساحة السورية ورغبة بالتعاون في هزيمة «تنظيم الدولة». وكانت هناك أسباب تدعو للتفاؤل منها الاتفاقية النووية مع إيران ورغبة روسيا بتصحيح علاقاتها المتوترة مع الغرب بسبب الأزمة الأوكرانية، إضافة لحالة التعب التي يعاني منها جيش الأسد بعد حرب استنزاف طويلة ورغبة الولايات المتحدة والدول المتحالفة معها بإظهار نوع من التقدم في الحرب ضد «تنظيم الدولة» وبعد عام من الغارات المتواصلة وأخيرا قرار الحكومة التركية الانضمام للتحالف الدولي ضد «تنظيم الدولة». ورغم الدعم المتواصل من موسكو لنظام الأسد في دمشق إلا أنها أبقت على خطوط الاتصال مفتوحة مع معارضيه ودعمت سلسلة من اللقاءات في موسكو وأمكنة أخرى. واجتمع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع عدد من زعماء الدول العربية ورموز في المعارضة ومسؤولين إيرانيين. وحصيلة كل هذه التحركات كانت صفرا. فكما تقول المجلة «بدا واضحا أن لا أحد في الحقيقة منهم تزحزح عن موقفه. فقد أعلنت كل من إيران وروسيا عن التزام جديد لدعم النظام في دمشق والحفاظ عليه. وفي الوقت نفسه أكدت الولايات المتحدة والدول الحليفة على مسؤولية الأسد في صعود ظاهرة «تنظيم الدولة» وأن يديه ملثوتان بالدم بشكل يجعله خارج أي تسوية في المستقبل. ولا تزال تركيا والسعودية تصران على رحيل الأسد». وترى المجلة في مواقف كل طرف متشددة وحتى وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف الذي يتسم بالهدوء، فقد بدد آمال الدبلوماسيين الغربيين الذي تطلعوا لتحول في الموقف الإيراني من الأسد. وحمل ظريف من يطالبون الأسد بالرحيل مسوؤلية استمرار الحرب. وبنفس السياق أكد سيرغي لافروف، وزير الخارجية الروسي على استمرار الدعم الروسي للأسد حيث قال إن «مطالب تنحي الأسد كشرط مسبق لقتال الإرهاب يظل غير واقعي ويترك آثارا سلبية» على جهود التسوية. وتعبر تصريحات لافروف التي أطلقها في الأول من أيلول/سبتمبر عن الموقف الروسي الذي يرى في نظام الأسد حاجزا ضد المتطرفين.
تحرك عسكري
ولم تتوقف روسيا عند حدود التصريحات بل قامت بهدوء بالتحرك وزيادة الدعم العسكري واللوجيستي ونقل مستشارين عسكريين إلى الأراضي السورية. وزاد عدد السفن الحربية التي ترسو في ميناء طرطوس السوري حيث القاعدة العسكرية الروسية الوحيدة على البحر الأبيض المتوسط.
وبدل إرسال مجندين وبأعداد صغيرة أصبحت روسيا ترسل اليوم قوات من المشاة المدربين بشكل جيد. ويتحدث المسؤولون الأمريكيون عن 1.000 جندي روسي في سوريا. وفي الوقت نفسه زادت روسيا من حملاتها الدعائية لتعزيز صورة الرئيس الأسد. وأرسلت أقوى إمرأة في العالم ماريانا نوموفا إلى دمشق بناء على دعم زوجة الأسد ـ أسماء الأسد. وفي الوقت الذي لا تخطط فيه أمريكا وحلفاؤها وضع قوات على الأرض إلا أن دولا مثل بريطانيا وفرنسا وأستراليا أعلنت عن خطط لتوسيع الغارات الجوية والعمليات الاستطلاعية لتشمل سوريا. كل هذا في الوقت الذي تزداد فيه خسائر النظام الذي يخسر مناطق وقواعد جوية لجماعات متشددة مثل جبهة النصرة الموالية لتنظيم «القاعدة» والتي تعتبر هدفا للطيران الأمريكي. وأصبحت قوات النظام محاصرة في الشمال، خاصة مدينة حلب التي لا يزال يسيطر على نصفها. ومن هنا فخسارته لها ستكون ضربة قوية وستؤدي إلى موجة جديدة من اللاجئين الذين سيأتون من المناطق التي كانت تابعة للنظام ومن مؤيديه. كل هذا يفسر التحرك الروسي الذي يستخدم على ما يبدو «شماعة» الحرب على الإرهاب للتدخل في سوريا. وبحسب التقارير تخطط روسيا لتعزيز القاعدة البحرية في طرطوس. ومع ذلك فكل ما قيل عن تحرك روسي لا يزال ضمن ما هو معروف عن التعاون بين البلدين في المجالين العسكري والأمني.
ليس مهما
ويقول باتريك كوكبيرن في صحيفة «إندبندنت» «عموما فهناك القليل من الأدلة التي تظهر أن روسيا وسعت من مهمتها الموجودة في سوريا والتي تقوم على تقديم الاستشارة وإرسال مستشارين ومهندسي مقاتلات ومعدات لوجيستين وخبراء».
ويشير هنا إلى التقارير التي تحدثت عن طائرات روسية ومقاتلين روس وتوسيع في عمل القاعدة البحرية بطرطوس، لكن هذه النشاطات تأتي في سياق بدا فيه الأسد وجيشه أضعف من العام الماضي وعانيا من انتكاسات وهزائم. وأكبر مشكلة تواجه الأسد هي تقدم «تنظيم الدولة» على الطريق السريع شمال – جنوب الذي يربط العاصمة مع مدن مثل حلب والساحل.
علاقات تاريخية
ويشير إيشان ثارور في «واشنطن بوست» إلى التحقيق الذي نشرته وكالة أنباء «رويترز» نقلا عن مصادر لبنانية وتحدثت فيه عن مشاركة روسية للطيران السوري. وما أورده مسؤولون أمريكيون عن وصول دبابات روسية.
ويرى الكاتب أن التوسع العسكري الروسي في سوريا ربما كان يهدف لتوسيع النفوذ في هذا البلد أو حماية ما تبقى من مناطق واقعة تحت سيطرة الأسد. ومهما كانت الأهداف فالتحرك الروسي لا يمثل تحولا كبيرا في السياسة الروسية تجاه الأزمة، فالعلاقات العسكرية بين البلدين ليست جديدة، وهو ما أكدته المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية يوم الأربعاء «لم تخف روسي أبدا تعاونها التكنولوجي والعسكري مع سوريا. ويساعد الخبراء الروس السوريين على تشغيل المعدات». وعاد لافروف يوم الخميس للتحدث بشكل مفتوح «كنا دائما صريحين فيما يتعلق بوجود خبرائنا العسكريين في سوريا». ويرى بعض الخبراء أن التحركات الروسية ليست تعبيرا عن استراتيجية حقيقية ولكنها عبارة عن تكتيكات يقوم بها نظام استبدادي للحفاظ على ما تبقى له من نفوذ في المنطقة. وفي تصريحات للزميل في تشاتام هاوس في لندن نيكولاي كوزانوف فـ»المواجهة بين روسيا والغرب وراء جر روسيا إلى الشرق الأوسط». ويعلق ثارور قائلا إن التورط الروسي ليس جديدا، فتاريخيا ومنذ أيام الإمبراطورية العظيمة طمعت النخبة السياسية في موسكو بأن يكون لها نفوذ أو مجال تأثير في الشرق الأوسط أو البحر الأبيض المتوسط. وقدمت الحرب الباردة صورة أوضح عن الطموحات الروسية. وكان للولايات المتحدة والقوى الغربية حلفاء أقوياء في المنطقة – إسرائيل وأنظمة استبدادية وعسكرية في السعودية وتركيا وإيران الشاه. أما سوريا ومصر الاشتراكية فوقعتا تحت التأثير السوفييتي. وفي الفترة ما بين 1955 -1960 قدم الاتحاد السوفيتي إلى سوريا مساعدات عسكرية بقيمة 200 مليون دولار أمريكي. ويرى محللون غربيون وإسرئيليون أن الاتحاد السوفييتي لعب دورا مهما في التحريض على حرب عام 1967. لكن التحالف السوفييتي – السوري توثق أكثر في عام 1971 بعد وصول حافظ الأسد إلى السلطة. وكان الأسد ضابطا في الجيش وتلقى تدريبه العسكري في الاتحاد السوفييتي حيث تعلم على قيادة مقاتلات الميغ التي أصبحت أهم المقاتلات في سلاح الجو السوري. وتلقت النخبة البعثية تعليمها في المدارس الروسية. وفتح الأسد الباب أمام الاتحاد السوفييتي لإنشاء مركز للإمدادت والصيانة في طرطوس والذي يعتبر آخر المراكز الروسية على البحر المتوسط اليوم. كما ودعمت موسكو التدخل السوري في لبنان أثناء الحرب الأهلية. واستمر التعاون بين البلدين حتى بعد انهيار الاتحاد السوفييتي حيث اشترت سوريا معظم أسلحتها من روسيا. وفي عام 2011 وعشية الانتفاضة بلغ حجم الصفقات بين البلدين 4 مليارات دولار. وكان يعيش في سوريا حوالي 10.000 روسي فيما استثمرت الشركات الروسية في سوريا حوالي 20 مليار دولار. وكتبت آنا بورشفيتساكايا المحللة بمعهد واشنطن عام 2013 «منذ عام 2000 حاول بوتين لإعادة موقع روسيا كقوة عظمى وشكل سياستها بناء على معاداة أمريكيا من أجل موضعة البلاد كمعادل للغرب في الشرق الأوسط». و»تعتبر سوريا من أهم مواطئ قدمها في المنطقة ومفتاح رئيسي في حسابات بوتين». ويظل التأثير الروسي قليلا مقارنة مع تأثير الولايات المتحدة ودول حلف الناتو في الشرق الأوسط. فحجم البوارج الروسية الدائمة في البحر المتوسط هو ما بين 5-6 وهو عد أقل من منافسيها مثل الولايات المتحدة التي تحتفظ بأسطول كامل في مياه الخليج العربي. ويرى جون إرنيست من المجلس الأطلنطي أن الوجود الروسي في المنطقة قديم «وليس غريبا أن يعيد الروس تأكيد أنفسهم في سوريا».
مخاطر
وإلى هذا أشار كل من مايكل سينغ وجيفري وايت من معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، حيث قالا إن انخراط موسكو المكثف في النزاع في سوريا ليس بالأمر الجديد. وأشارا للروابط الروسية العسكرية مع نظام الأسد التي تعود لعدة سنوات مضت.
وكذا الدور الدبلوماسي الذي تلعبه موسكو في النزاع السوري، فهي التي حمت نظام الأسد من الضغوط التي تمارس عليه عبر استعمال حق النقض (الفيتو) ضد عدد من قرارات مجلس الأمن الدولي بشأن الصراع. وفي الآونة الأخيرة، أصبحت موسكو خلية نشاط دبلوماسي واستضافت عددا من المسؤولين الغربيين والشرق أوسطيين بمن فيهم كل من وزير الخارجية الأمريكي جون كيري والجنرال الإيراني قاسم سليماني، فضلاً عن جولتين من المباحثات المتعددة الأطراف. ولهذا يتفق الكاتبان على أن هدف السياسة الروسية: حماية نظام الأسد الذي يواجه ضغوطاً متزايدة في الأشهر الأخيرة من قبل قوات المعارضة مما ساهم على الأرجح ببلورة قرار موسكو بتكثيف دعمها. وقد تمثل الخطوات الروسية رسالة للمقاتلين وداعميهم الأجانب عن عمق التزام موسكو بدعم النظام، مما يضعف بالتالي من أملهم في تحقيق نصرٍ عسكري ويحفّزهم أكثر وأكثر على القبول بحلّ يستند إلى شروط مفضلة لروسيا والرئيس الأسد. وبعيدا عن مبرر الحرب على الإرهاب فالمناورة الروسية الجديدة في سوريا ستترك آثارها على الخطط الأمريكية لأن انخراط القوات الروسية إلى جانب النظام قد يعقد أي عمل عسكري أمريكي ضد الأسد، بما في ذلك فرض منطقة حظر جوي. ويحذر الكاتبان من مخاطر التوسع الروسي في سوريا حيث سيعقد هذا التوسع أي فكرة لممارسة ضغط عسكري كانت الولايات المتحدة تفكر في فرضه على النظام السوري. وسيمنح الأسد ثقة تجعل أي تسوية دبلوماسية – مقبولة لدى الولايات المتحدة والمعارضة السورية صعبة. وستجد موسكو نفسها مضطرة لدعم حليف ضعيف ومحتاج في حين ستستعدي عليها قوى إقليمية مثل إسرائيل والمملكة العربية السعودية. وقد يصبح الوجود الروسي المتزايد نفسه هدفا للمعارضة والعناصر الجهادية السورية.
مراوغة
وبعيدا عن النفوذ الروسي هناك من يرى في التحرك الكثير من مراوغ جديدة من بوتين. ويعتقد روجر بويز في «التايمز» البريطانية أن الطريقة التي يقوم فيها الكرملين بإخراج مسرحية «التدخل» في سوريا تشبه عملية ضم جزيرة القرم العام الماضي.
ففي البداية وصل الجنود الروس إلى الجزيرة وهم يرتدون زيا مموها وتبع ذلك ضم وتدخل عسكري قوي كان مقدمة لتقسيم أوكرانيا. ومع ذلك يظل السياق السوري مختلفا خاصة أن بوتين يرغب في نهاية الشهر الحالي بتقديم نفسه كرجل لا يمكن الاستغناء عنه عندما يزور الأمم المتحدة للمشاركة في اجتماعات الجمعية العامة. وعليه فاللعبة التي سنتابع فصولها في الأشهر الستة المقبلة ستتم على مرحلتين. المرحلة الأولى يتخلص فيها بوتين من تبعات الحرب في أوكرانيا، وتشمل تجميد الحرب والتقرب من أمريكا والاتحاد الأوروبي بغية رفع العقوبات عنه. وهذا مهم لبوتين بسبب تبعات انخفاض أسعار النفط وأثره على الميزانية. وتدعم المؤسسة العسكرية هنا تجميد الحرب في شرق أوكرانيا. وفي حالة نجاح موسكو بقفل ملف أوكرانيا فعندها ستتوجه القيادة الروسية للمرحلة الثانية وفتح تعاون بين الشرق والغرب في سوريا. ولن يعدم بوتين الحيلة لتقديم التعاون هنا باعتباره مصلحة للجميع. وسيقول في نيويورك إن الأزمة الناجمة عن تدفق اللاجئين إلى أوروبا هي بسبب تفكك الدولة. وما سيدعم موقف بوتين هو بطء الحملة التي تقودها الولايات المتحدة ضد «تنظيم الدولة» في تحقيق إنجازات على الأرض في الوقت الذي أصبح فيه الجهاديون وليس فقط «تنظيم الدولة» قريبين من السيطرة على «الأم فايف» وهو الطريق السريع الذي يصل العاصمة دمشق ببقية مناطق الغرب والشمال السوري. ويرى بوتين أن تحقيق انتصار في الحرب مشروط بوجود جيش قوي يعمل وينسق مع طيران قوي وهو ما يعتقد بوتين انه قادر على تقديمه. فبدعم روسي من المعدات والمستشارين والأسلحة الجديدة يمكن للأسد القيام بالمهمة. ومن هنا فالعرض الذي يقدمه بوتين واضح: دعونا نتعاون للقضاء على «تنظيم الدولة» تماما كما تعاونا من قبل للتخلص من الأسلحة الكيميائية التي كانت سوريا تمتلكها. ويقول بويز إن الكثيرين في أوروبا قد يشترون عرض بوتين أما من يشك في نوايا الزعيم الروسي فسينظر كمحاولة اخيرة من روسيا لإنقاذ آخر «زبون» لها في الشرق الأوسط. وعليه يتذرع بفكرة الحرب على الإرهاب لأنقاذه. ويقول بويز إن دروس أوكرانيا مهمة لأنها غزو بدائي وخلق أزمة تعطي بوتين الفرصة لاستغلالها. وكشفت التجربة مع بوتين منذ وصوله الكرملين عام 2000 اظهرت أن مبادرات السلام التي يتقدم بها ليست سوى أساليب لحرف النظر. القدس العربي – إبراهيم درويش |
الصفحة الرئيسية
»
مواقـع
» بوتين يخفف التصعيد على الجبهة الأوكرانية ويعرض على الغرب التعاون في سوريا
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
0 التعليقات Blogger 0 Facebook
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.