سورية وثلاثة سيناريوهات مستقبلية

المواد المنشورة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع..


تتناول ورقة صادرة عن مركز الجزيرة للدراسات تداعيات المكاسب الأخيرة التي حققتها المعارضة المسلحة السورية على الأرض، وتحاول تحديد أسبابها وردود أفعال الأطراف الدولية والإقليمية عليها، فضلاً عن آثارها على أطراف الصراع من السوريين (النظام والمعارضة). وتختم بمحاولة استشراف سيناريوهات تطور المسألة السورية، خاصة فيما إذا كانت التغيرات الأخيرة سوف تؤدي إلى تحريك عملية التسوية المجمدة منذ مطلع العام 2014.
أثر مكاسب المعارضة الأخيرة على نظام الأسد
 على امتداد العامين الماضيين وبعد نكسات عدة (كسقوط القصير بيد قوات نظام الأسد وعناصر من حزب الله في مايو 2013) لحقت بالمعارضة السورية المسلحة شهدت الساحة السورية تطورات ميدانية وسياسية مهمة؛ إذ تمكنت قوات المعارضة، مستفيدة من التحسن الذي طرأ على العلاقات التركية-السعودية بعد تسلُّم الملك سلمان دفة القيادة في السعودية، وظهور مناخ سياسي جديد في المنطقة بعد القرار السعودي التدخل في اليمن، من إحداث تغيير نسبي في المعادلات الميدانية على امتداد الجغرافيا السورية. وقد جاءت هذه الإنجازات أيضاً نتيجة تشكيل غرف عمليات مشتركة، تمكنت من رفع مستوى التنسيق الميداني بين الفصائل، وإن لم تؤدِّ إلى توحيدها.
هذه التطورات كان لها الأثر الكبير على نظام الأسد وحلفائه، فكان أن تحرك النظام في اتجاهين، الأول: استدعاء مزيد من الدعم العسكري والمادي من إيران، والثاني: الطلب من روسيا إعادة فتح قنوات سياسية برعايتها وتحت إشرافها، وذلك استباقاً لأي تحرك دولي يمكن أن يتجاوز دوره، كما ظهر في البيان الختامي لاجتماع "التحالف الدولي لمحاربة تنظيم الدولة"، الذي عُقد في باريس مطلع يونيو/حزيران 2015، وأشار إلى عدم جدية نظام الرئيس الأسد بمحاربة تنظيم "الدولة"، ودعا إلى "إطلاق عملية سياسية شاملة وصادقة من أجل تطبيق مبادئ بيان جنيف".
وعلى المستوى الدولي: فقد دفعت المكاسب التي حققتها فصائل المعارضة المسلحة إلى استئناف الاتصالات الأميركية-الروسية والتي كانت قد انقطعت بعد فشل مؤتمر جنيف2 في فبراير/شباط 2014، وكانت واشنطن اتهمت حينها روسيا بالإخلال بالاتفاق الذي تم التوصل إليه في موسكو في يناير/كانون الثاني 2014 بين وزيري الخارجية الروسي والأميركي؛ حيث تعهد الطرفان بالضغط كلٌّ على حلفائه للتوصل إلى تشكيل هيئة حكم انتقالي بالتوافق بين النظام والمعارضة.
بناء عليه، وفي غمرة التراجع الميداني للنظام أمام المعارضة، وسيطرة تنظيم "الدولة" على تدمر، قام وزير الخارجية الأميركي جون كيري بزيارة مؤجَّلة إلى موسكو التقى خلالها الرئيس بوتين في الحادي عشر من مايو/أيار الماضي. جاءت الزيارة قبل يومين فقط من قمة كامب ديفيد الأميركية-الخليجية وبعد أيام على اجتماع كيري بنظرائه الخليجيين في باريس حيث استأثر الوضع السوري بجزء كبير من المحادثات. اتفق الطرفان: الروسي والأميركي على أن استمرار الوضع على حاله في سورية سوف يؤدي إلى النتائج التي طالما زعما أنهما يحاولان تجنبها، وهي انهيار مؤسسات الدولة السورية، وعلى رأسها الجيش والأجهزة الأمنية، وسيطرة تنظيمات جهادية وفي مقدمتها تنظيم "الدولة" على مقاليد الحكم في سورية.
كما أن هذه المكاسب كان لها الأثر على موقف روسيا حيث تخلت عن استراتيجية دعم النظام حتى تحقيق النصر، فأقرَّت بلا وجود لحل عسكريّ في سورية، ودعت إلى العودة إلى مبادئ بيان جنيف الذي جرى التوصل إليه في يونيو/حزيران 2012، وذلك كخطوة لابُدَّ منها لمنع انهيار سوريا وسقوطها بيد الجماعات الجهادية.
ثم كان أن اتجه بعض حلفاء أمريكا الإقليمين إلى تبني سياسات أكثر هجومية في الذود عن مصالحها بعيداً عن الرغبات الأميركية، بما في ذلك سعيها إلى تغيير المعادلات الميدانية على الأرض في سورية، بالإضافة إلى تحقيق فصائل المعارضة المسلحة السورية لقدر أكبر من الاستقلالية المالية والتسليحية، في الشمال خاصة، عن غرف العمليات التي تُشرف على تقديم الدعم لفصائل المعارضة ويتحكم الأميركيون بقراراتها، وذلك من خلال سيطرتها على مصادر دخل مهمة بما فيها المعابر الحدودية وحقول النفط والغاز والقمح والفوسفات وغيرها.
عليه، تحركت واشنطن سريعًا لاحتواء الموقف، وبعد أسبوع على زيارة كيري، وصل إلى موسكو مسؤول الملف السوري في الخارجية الأميركية دانيل روبنشتاين، ونقل إلى المسؤولين الروس تصورًا أميركيًّا لحل سياسي في سورية لا يستبعد الأسد في مراحله الأولى، وذلك في ظل توقعات عن عودة فريق المبعوث الأممي السابق إلى سورية، كوفي عنان، للإشراف على تطبيق بيان جنيف وفق قراءة توافقية روسية-أميركية، ما زالت بحاجة إلى دعم القوى الإقليمية.
ماذا عن إيران وموقفها من تلك المكاسب؟
 أثارت سلسلة الانتصارات هذه حالة من القلق في طهران. وكانت أنباء تواترت عن قيام وزير الدفاع السوري، فهد جاسم الفريج، أثناء زيارته الطارئة إلى إيران، بعد سقوط مدينتي إدلب وجسر الشغور مطلع شهر مايو/أيار الماضي، بطلب تفعيل معاهدة الدفاع المشترك التي تم التوصل إليها عام 2006، والتي تشمل بندًا ينص على أن أي "هجوم على سورية يعد بمثابة هجوم على إيران"؛ ما يتيح إرسال قوات إيرانية إلى سورية في حال طلبت الأخيرة ذلك .
ولم يتأخر الرد الإيراني على طلب النظام السوري؛ إذ قامت طهران بإرسال بضعة آلاف من قوات الحرس الثوري والميليشيات الأجنبية التابعة لها للمساعدة في الدفاع عن معقل النظام في الساحل والعاصمة دمشق، ومحاولة قلب المعادلات الميدانية في الجنوب السوري، في محاولة للإمساك بورقة الصراع مع إسرائيل.
لكن إيران التي سارعت لمنع حصول ما يشبه "تأثير الدومينو" لمواقع سيطرتها في سورية، بدأت تدرك من جهة أخرى أن انتصار النظام وقدرته على العودة للإمساك بالبلد كما كانت عليه الحال قبل مارس/آذار 2011 قد أصبح مستبعدًا جدًّا بعد سلسلة النكسات الأخيرة؛ ما حدا بها إلى التفكير بطريقة لحماية استثماراتها السورية من أي طارئ؛ فقد طالبت في مقابل مساعدتها للأسد الحصول على ضمانات سيادية من الدولة السورية على شكل عقارات وأراضٍ وموانئ ومطارات وثروات طبيعية متنوعة لضمان سداد الأموال التي قدمتها للنظام السوري طوال فترة الأزمة على شكل قروض ميسرة أو خطوط ائتمان.
أما عن سيناريوهات ما بعد هذه الانتصارات والتحركات على المستويين العسكري والسياسي، فيبدو أن سورية أمام أحد السيناريوهات الثلاثة التالية:
1. سيناريو الحل التوافقي : ويُترجم هذا السيناريو بنشوء تفاهم دولي (روسي-أميركي) للدفع باتجاه قراءة توافقية لتطبيق بيان جنيف. هذا التفاهم سوف يحتاج بالطبع إلى تعاون أطرف الصراع الإقليميين سواء من أصدقاء المعارضة (السعودية وتركيا وقطر) أو حلفاء النظام (إيران) للضغط على أطراف الصراع السوريين للقبول بمثل هذا الحل. وفي حال توافر عناصر هذا السيناريو، سوف نشهد على الأرجح استئناف مسيرة جنيف بنسخة ثالثة يشارك فيها الإيرانيون هذه المرة، بدفع من المبعوث الأممي ستيفان دي مستورا، أو مَن يخلفه. هذا السيناريو سوف يكون مدفوعًا بحسابات عقلانية لمختلف اللاعبين الخارجيين في الأزمة السورية ونابع بالدرجة الأولى من مخاوف من انزلاق سورية نحو الفوضى وتحولها إلى بؤرة إقليمية لإنتاج التطرف و"الإرهاب".
وقد تفيد النكسات الأخيرة التي تعرَّض لها النظام في دفع إيران المستنزفة بفعل تورطها في مواجهات على امتداد الإقليم إلى الركون إلى حلٍّ سياسي يحفظ لها جزءًا من مصالحها في سورية الموحدة، بعد أن يكون الاتفاق حول برنامجها النووي قد أمَّن لها اعترافًا دوليًّا -أميركيًّا تحديدًا- بشرعية نظامها، وإدماجه في المنظومة الإقليمية بعد أن تمت إعادة تأهيله. في هذه الحالة سوف يتم الدفع باتجاه تشكيل حكومة من النظام والمعارضة تحفظ ما تبقى من مؤسسات الدولة السورية (وتشمل إعادة هيكلة أجهزة الأمن والجيش تحديدًا واستيعاب فصائل المعارضة المعتدلة ضمنها)، والتوجه نحو محاربة تنظيم "الدولة" وربما غيره من الجماعات الجهادية ذات التوجهات الأممية. وقد زادت أسهم هذا السيناريو مؤخرًا بعدما تسرب عن مناقشة قمة الدول الصناعية السبع الكبرى التي عُقدت في بافاريا الألمانية في الثامن من يونيو/حزيران الجاري لإمكانية دفع الرئيس الأسد إلى اللجوء إلى روسيا في إطار تفاهم مع موسكو تمهيدًا لمواجهة تمدد تنظيم "الدولة" في سورية، وكذلك تنامي الاتصالات السعودية-الروسية إثر قيام وزير الدفاع السعودي، الأمير محمد بن سلمان، بإجراء محادثات في موسكو مع الرئيس بوتين تحضيرًا لزيارة مرتقبة للملك سلمان، كل ذلك تزامنًا مع تقارير عديدة تتحدث عن حصول تقارب روسي-أميركي بشأن الأزمة السورية.
 لكن العقبتين الرئيسيتين أمام هذا السيناريو، هما: الصراع السعودي-الإيراني، وارتباط جبهة النصرة، أحد مكونات المعارضة السورية المسلحة، مع القاعدة. فمن الصعب أن تتوصل السعودية وإيران إلى اتفاق يقتصر على سورية دون أن يتفقا على باقي الخلافات التي ترتبط بالصراع السوري ارتباطاً وثيقاً، مثل وضع حزب الله في لبنان، وموقع السنة العرب في النظام العراقي. وكذلك لا يمكن أن تنفصل جبهة النصرة عن تنظيم القاعدة دون أن تصاب باضطراب في بنيتها المشكلة من عدد مؤثر من العناصر الأجنبية، وقد يصيبها هذا التحول إن حدث بتشققات قد تقضي عليها.
2. سيناريو الحفاظ على الوضع القائم: ويعني استمرار الصراع وفق وتيرته الحالية وبالشكل الذي يؤدي إلى الاستمرار في منع الحسم العسكري، بالتوازي مع غياب الإرادة الدولية والإقليمية للدفع باتجاه حلٍّ سياسي، مع استمرار الصراع بين الأطراف الخارجية في حرب وكالة على الأرض السورية. هذا السيناريو يقوم على الحفاظ على موازين القوى على الأرض دون تغيير كبير؛ ففي الوقت الذي يندفع فيه حلفاء المعارضة نحو زيادة دعمهم لتحقيق اختراق ميداني بهدف الضغط على النظام للقبول بحل سياسي، يقوم حلفاء النظام بزيادة قدرات الصمود لديه لصدِّ أية محاولة لإحداث تغيير دراماتيكي في موازين القوى تتم ترجمته إلى تنازلات سياسية. مما يؤدي فعليًّا إلى تقسيم سورية إلى كانتونات موزعة بين سيطرة النظام، وتنظيم "الدولة"، والقوى الكردية، وبقية فصائل المعارضة. وتبدو حظوظ تحقق هذا السيناريو مرتكزة إلى عوامل لا يمكن أن تستمر؛ فالحفاظ على موازين القوى الراهنة سواء بين القوى السورية أو القوى الخارجية المنخرطة في النزاع غير ممكن لأن تطورات الأوضاع تشير إلى أن موارد الأطراف محدودة ولا يمكن تجديدها بلا نهاية، كما يتبين في عجز النظام السوري عن تعويض خسائره من القوات المقاتلة لأن رهانه على الأقليات جعل قاعدته الاجتماعية ضيقة ولا يمكن أن تمده بمقاتلين لفترات غير محدودة. ثم إن استمرار الأوضاع يعطي فرصًا للاعبين جدد للانخراط في الصراع وينتقلون من هامش الصراع إلى مركزه بل وقد يتضح أنهم المستفيد الرئيسي من الصراع، كما حدث مع توسع تنظيم "الدولة" في المناطق التي لم يعد النظام السوري قادرًا على حكمها، وتهديده حاليًا لدمشق نفسها.
3. سيناريو سيادة الفوضى:  ويعني استمرار التفسخ البطيء للنظام ومعه مؤسسات الدولة السورية نتيجة الإنهاك العسكري والاستنزاف المادي المستمر منذ أكثر من أربع سنوات، وصولًا إلى نقطة الانهيار، وقد تحصل تصدعات كبيرة داخل النظام بسبب تداعي المعنويات بفعل الضربات المتتالية لفصائل المعارضة خاصة إذا تم استهداف المناطق التي تُعد حاضنة طبيعية له في ريف حماة أو الساحل، أو نتيجة سقوط مدن كبرى بحجم حلب ودير الزور والحسكة ودرعا والقنيطرة وحماة، وهي جميعًا مراكز محافظات غدت محاصرة بالكامل أو شبه محاصرة نتيجة سيطرة تنظيم "الدولة" على معظم البادية السورية وتقدم فصائل المعارضة في ريف حماة الشمالي بعد سيطرتها شبه الكاملة على محافظة إدلب وتقدمها باتجاه دمشق شمالًا من درعا والقنيطرة. هذا السيناريو سوف يؤدي إلى دخول سورية في حالة الفوضى الكاملة وسوف يسمح بسيطرة تنظيم "الدولة" على الجزء الأكبر من البلاد (علمًا بأنه يسيطر حاليًا أو يتحكم بنصف مساحة سورية)، وهو ما يتفق جميع أطراف الصراع الخارجية حتى الآن على الحيلولة دون وقوعه. وحظوظ هذا السيناريو متدنية لأن اللاعب الوحيد تقريبًا الذي يدفع نحو التفسخ هو تنظيم "الدولة"، ولا يمكنه أن يحقق مبتغاه لأنه يواجه قوى كثيرة داخل سورية، هي: النظام والمعارضة السورية المسلحة، وخارج سورية هي القوى الدولية مجتمعة.
تاريخ النشر من المصدر : 25.06.2015
المصدر : مركز الجزيرة للدراسات
الرابط: 

0 التعليقات Blogger 0 Facebook

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

 
Syrian Revolution in Switzerland © 2018. جميع الحقوق محفوظة. اتصل بنا
Top