img

كل شيء في سوريا معقّد ومضن، كل المآسي في سوريا اليوم معضلات مركبّة وكل المشاكل السياسية والعسكرية والإغاثية هي مآس في رسم الإنسانية برمتها. هي مآس في حجم فاجعة الطفل السوري الذي ألقاه البحر جثة هامدة على سواحل تركيا الجنوبية.
كلّ شيء في سوريا اليوم محكوم بمنطق الاستعصاء. سياسيا تحترق الشام بين نظام عاجز عن الإصلاح والتغيير، ومعارضة قاصرة عن الحكم والبناء. عسكريا تشتعل البلاد بين جيش يعوزه الحسم في ضواحي دمشق، ومعارضة فتكت بها الميليشيات التكفيرية وشبه التكفيرية. تاريخيا تندثر شواهد الحضارة والثقافة بين أحفاد هولاكو، وبين لصوص الآثار من جيران سوريا الشماليين. اجتماعيا ينشرخ الجسم الجمعي السوري بين “لاجئين في أرض العرب”، وتائهين في بحر الغرب، وغرباء على أرض الوطن. دوليا تعجز كافة المقترحات عن مجرّد إعلان هدنة جزئية موسمية ظرفيّة تسكت آلة الحرب المجنونة المجلجلة في أرض الشام منذ أكثر من خمسة أعوام.
سقطت الدولة في سوريا وبقي النظام أو جزء منه على الأقل، اندثرت معظم المؤسسات وظلت أجزاء من سلطة متهالكة، ذهبت نصف جغرافيا الشام واحترق النصف الثاني بالبراميل المتفجرة أو بتصفيات أمراء الحرب لغيرهم من الحيتان السمينة في سوق الحرب والدمار، فشلت كافة التسويات وبقيت الاشتراطات قائمة، ذلك أنّ الخطوط الحمراء في التفاوض أغلى من دماء السوريين حتّى وإن مات نصف السوريين غرقا، واندثر النصف الثاني في انتظار الانتهاء من الحرب.
في مثل هذه المشهديّة القاتمة تصير كافة مبادرات الوسيط الدولي ستيفان دي ميستورا أطروحات ومقاربات لا نصيب لها من أرض الواقع ولا حظّ لها في عقل أطراف النزاع، ليس لاستحالة إسقاط المبادرة الدولية على الميدان وإنما لانعدام وجود فضاء وسياق وبيئة لاحتضان مبادرة دي ميستورا وغيرها من المبادرات الدولية الأخرى.
قضت الأزمة السورية على مفتاحيْن أساسييْن من مفاتيح الحلّ، الأوّل متمثل في “القوى المرجعيّة” القادرة على لعب دور الوسيط النزيه في الانتقال السياسي والديمقراطي في البلاد، وهو الأمر الذي يفسّر إصرار دي ميستورا على إيجاد مجلس عسكري على الشاكلة المصريّة إبان ثورة 25 يناير 2011، تناط بعهدته أهمّ القضايا السياسية والعسكرية والأمنية في سوريا.
ذلك أنّ الوسيط الدولي أدرك أنّ الشام تعوزها “مراكز قوّة رمزية” بالمنطق التاريخي والأنثروبولوجي للمصطلح قادرة على حيازة ثقة الجزء الإصلاحي من النظام، الحديث هنا متمحور حول نائب الرئيس السابق فاروق الشرع وغيره من المسؤولين المغيّبين عن الفعل والأداء، ومستعدة لترجمة مشاريع التغيير والإصلاح الديمقراطي على أرض الواقع.
المفتاح الثاني لحلّ الأزمة، كان متمثلا في “بعض مؤسسات الدولة” القادرة على أن تكون رافعة للانتقال السلس في البلاد وعدم سقوط الدولة في الفوضى، فكما مكنت الإدارة التونسيّة الأصيلة من استمراريّة الدولة في 14 يناير 2011، ومنعت المؤسسة العسكريّة من سقوط الدولة المصريّة في مرتين على الأقل، كانت في سوريا الكثير من المؤسسات المؤهلة لأداء هذا الدور؛ السلطة العسكريّة، القضاء، المثقفون ورجال الدين، طبقة رجال الأعمال النظيفين، إلا أنّ حجم الاستقطاب الثنائي وتوظيف طرفيْ الأزمة لكافة مقومات السلطة الرمزية والمادية والتدخلات الإقليمية والدولية، ناهيك عن دخول العامل الإرهابي على خطّ الأزمة السورية حال دون أي دور حقيقي للقوى المرجعية الرمزيّة في البلاد.
سوريا كما ليبيا، أفضى فيهما غياب “القوى المرجعيّة الرمزية” إلى دخولهما انكسار الأطروحات السياسية على أنقاض مزاعم الحسم العسكري القريب.
على دي ميستورا ألا يتعب نفسه في الرحلات بين عواصم العالم ودمشق، فالنظام، كما المعارضة، أضاعا فرصة تسوية الأزمة السورية بإضاعة القرار الداخلي السياديّ عبر الدخول في مغامرات عسكرية غير محسوبة ولا محسومة. على دي ميستورا أن ينظر جليا في صورة الشهيد الرضيع، فالدولة السيدة والمعارضة المسؤولة لا تصنعان ولا ترتضيان لشعبهما هذا المصير. القرار والخيار سواء كان بالحرب أو السلام موجود في العواصم الكبرى من موسكو وطهران إلى الدوحة وأنقرة وباريس، وإن اتفق اللاعبون رضي الملعب بمقتضيات الترضية.

العربأمين بن مسعود

0 التعليقات Blogger 0 Facebook

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

 
Syrian Revolution in Switzerland © 2018. جميع الحقوق محفوظة. اتصل بنا
Top