انتظرت سلوى طويلا أن تسمع شيئاً عن ابن شقيقها الذي اعتقله نظام بشار
الأسد في العام 2011، لكنها لمّا تبلغت نبأ وفاته من موظفة في دائرة النفوس
بحماة وسط سوريا، كادت لا تصدق، فراحت تردّد تحت وقع الصدمة "هل قضي
الأمر؟ هل مات حقاً؟".
وتروي السيدة التي تستخدم اسماً مستعاراً بمرارة كيف تلقت خبر الفاجعة،
خلال زيارة الى دائرة النفوس في حماة مسقط رأس العائلة، من موظفة منهمكة
بأوراق مكدسة فوق مكتبها. وتقول: "قالت لي: نعم، تبلغنا بأسماء كل الذين
ماتوا في الداخل (السجون)".
ويقدر عدد المعتقلين في سجون نظام الأسد منذ اندلاع الثورة في سوريا عام
2011، بعشرات الآلاف في أنحاء سوريا. وتؤكد شهادات معتقلين نجوا من الموت،
ومنظمات حقوقية أن المعتقلين يتعرضون لشتى أنواع التعذيب التي أفضت إلى
وفاة الآلاف منهم جراء التعذيب، على أقل تقدير.
وتغرق عائلات في دوامة من القلق والشك، ويقضي أفرادها أوقاتهم في التنقل
بين الفروع الأمنية وينفقون مدخراتهم لمعرفة مكان احتجازهم أو حتى إذا ما
زالوا على قيد الحياة.
وفي الأسابيع الأخيرة، أرسل نظام الأسد قوائم إلى سجلات النفوس المدنية،
ضمت أسماء معتقلين قضوا جراء التعذيب، لكن النظام وضع بجانب أسمائهم كلمة
"متوفي" وزعم أن السبب في ذلك "نوبة قلبية".
ومع تناقل الخبر بسرعة، قصدت عائلات كثيرة دوائر النفوس لمعرفة إذا ما
كان أبناؤها المعتقلون "ما زالوا على قيد الحياة"،. وقال رئيس الشبكة
السورية لحقوق الإنسان فضل عبد الغني لوكلة الأنباء الفرنسية، إن 400 عائلة
سمعت جواب "لا" ردا على سؤالها عما إذا كان أبناؤها لا يزالون أحياء.
وتقدر الشبكة السورية عدد المعتقلين في سجون النظام بنحو 80 ألف شخص،
ووفقاً لعبد الغني فإن النظام "كان يمتنع في السابق عن إعطاء معلومات حول
المعتقلين. ولم يكن يعلن وفاتهم. أما الآن فهو يفعل ذلك ولكن بطريقة
بربرية".
"حرقوا قلوبنا"
وتم تحديث سجلات محافظة حماة أولاً، تبعتها حمص المجاورة، ثم دمشق، ثم
مدينة اللاذقية الساحلية، والحسكة شمال شرق سوريا. ولا تزال الأسماء
الجديدة تصل تباعاً إلى السجلات بحسب الشبكة.
ويؤكد عبد الغني أنه خلال سبع سنوات تابع فيها ملف حقوق الإنسان في
سوريا، لم يسبق أن علمت عائلات المعتقلين بوفاة أبنائها بهذه الطريقة،
وأضاف: "من كان يريد تسجيل واقعة وفاة، يذهب هو لإعلام دائرة النفوس بذلك
لكن الآن تسير الأمور بالعكس".
ويوم ذهبت سلوى، صبيحة يوم أحد في شهر يونيو/ حزيران الماضي، برفقة زوجة
أخيها إلى دائرة السجل المدني، كانا خائفتين من أن تكونا الوحيدتين اللتين
تسألان عن قريب لهما، قبل أن تتفاجآ "بوجود طابور طويل يمتد حتى أسفل
الدرج"، وفق سلوى.
وتضيف: "أغلبهم من النساء، أمهات أو أخوات معتقلين فيما وقف العساكر
بينهم. كانت كل واحدة تخرج وهي تمسح دموعها وتخبئ وجهها بوشاحها".
عادت سلوى الى منزلها غارقة في دموعها بعدما علمت بوفاة ابني شقيقيها:
سعد الذي اعتقل في العام 2011 وسجلت وفاته في العام 2013، وابن عمه سعيد
الذي اعتقل في العام 2012 وسجلت وفاته في العام الماضي.
ونظمت العائلة التي لم تتسلّم أي جثمان مراسم عزاء لمدة يوم واحد من دون
أن تجرؤ على إشهار حزنها في مدينة حماة الخاضعة لسيطرة قوات النظام، وتقول
سلوى بمرارة: "حرقوا قلوبنا، كانا كالورود، حتى في الحداد نخاف أن نحزن
ونخفي حزننا".
"لا عودة"
وفي حادثة مأساوية أخرى، تمكنت عائلة المعتقل إسلام دباس من رؤية ابنها
على قيد الحياة للمرة الأخيرة في العام 2012 خلف قضبان سجن للنظام قرب
دمشق.
ويروي شقيقه عبد الرحمن المقيم حالياً في مصر لوكالة الأنباء الفرنسية:
"كان يرتدي كنزة كتب عليها الحرية فقط بالإنكليزية. بعدها بفترة لم تعد
تصلنا أخباره". فيما عَلِمَ أحد أقارب إسلام المقيم في سوريا، بمسألة تحديث
السجلات، وتحقق من ملفه.
ويقول عبد الرحمن "تشير الوثيقة إلى أنه توفي في 15 كانون الثاني/يناير
2013 في صيدنايا". ويضيف: "صراحة لقد ارتحنا، قالت لي أمي إنه محظوظ. هو
يرقد بسلام".
وأقامت العائلة مراسم العزاء الأسبوع الماضي في مصر، على بعد مئات
الكيلومترات من مسقط رأسها، من دون تسلم جثمانه، ونقل عبد الرحمن ووالدته
عبر الهاتف نبأ وفاة إسلام لوالده الموجود أيضا في السجن في سوريا.
ووصفت منظمة العفو الدولية العام الماضي سجن صيدنايا بأنه "مسلخ بشري"
نظراً الى حجم الانتهاكات في هذا السجن القريب من العاصمة السورية.
وتشدد المحامية السورية نورا غازي، عضو حركة "عائلات من أجل الحرية"
المعارضة، على أن "تأكيد الشكوك لا يكفي"، وتقول: "حسنا، لقد أخبرونا
بوفاتهم، لكننا نريد أن نعرف مكان وجود جثامينهم. نريد أن نعلم السبب
الحقيقي وراء وفاتهم".
وبعد سنوات من البحث والانتظار المضني، تؤكد غازي المقيمة في بيروت أن
"الناس متعبون في سوريا. بالطبع هناك حالة إنكار. هناك مشككون يقولون لماذا
علينا أن نصدق أن هذه الوثيقة حقيقية؟ أو أن التاريخ صحيح؟".
والعام الماضي، تأكدت غازي من وفاة زوجها باسل خرطبيل في السجن، بعد
اعتقاله في 3 تشرين الأول/أكتوبر 2015. وتقول: "أعلنت الحداد عليه، وارتديت
الأسود. ظننت أنني حصلت على الحقيقة".
ورغم تأكدها من موته في السجن، لكن إطلاع أحد أقاربها في دائرة السجلات
المدنية في دمشق أوائل الشهر الحالي على تسجيل وفاته بتاريخ 5 تشرين
الأول/أكتوبر 2015، أصابها مجدداً بصدمة كبيرة. وتقول: "عندما رأينا ذلك،
بدا الأمر وكأنه مات من جديد".
وتضيف بتصميم: "لا عودة عن ذلك. لقد حاربت لأكثر من عامين من أجل معرفة مصيره. الآن سأقاتل كل حياتي لكي أحصل على جثمانه".
|
الصفحة الرئيسية
»
محلي
» دوائر نفوس تكتظ بعائلات معتقلين بسجون الأسد لمعرفة مصير أبنائها بعد تسليم قوائم المتوفين
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
0 التعليقات Blogger 0 Facebook
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.