المواد المنشورة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع ...
الكاتب : خضر خضّور
تاريخ النشر : 14.12.2015
تتناول دراسة بالتحليل نظام السكن العسكري، والذي كما يعتبره الباحث، قد شكّل عاملاً حاسماً في تحقيق بعض التماسك في جيش نظام الأسد، كشف فيها طبيعة العالم الذي يقطنه الضباط السوريون، وعلاقات النظام مع المجتمع السوري الأوسع، وعن أسباب انشقاق قلة منهم حتى الآن. والباحث ينفي، مبدئياً، أن يكون سبب هذا التماسك يعود إلى كون غالبية الضباط ينحدرون من الطائفة العلوية.
فلدى ضباط الجيش مداخل إلى نظام خدمات يربط تقريباً كل مجالات حياتهم المهنية والشخصية بالنظام، وهذا يضعهم على طرفَي نقيض في العلاقة مع بقية المجتمع. وتكشف "ضاحية الأسد" في شمال شرق دمشق، وهي أكبر مجمّع سكن عسكري، كيف يعمل مثل هذا النظام. هذا المجمّع، الذي يُعرف باللغة المحكية السورية بـ"الضاحية" يوفّر للضباط فرصة تملُّك عقار في دمشق. وبما أن العديد من الضباط ينحدرون من خلفيات ريفية مُفقَرَة، فإن تملُّك منزل في العاصمة يتجاوز إمكانياتهم المالية. مشاريع السكن العسكري منحتهم فرصة الترقي الاجتماعي، بيد أن المجتمع المحلّي الذي يقطنه الضباط وعائلاتهم داخل الضاحية، يُعزز بروز هوية متميّزة تفصلهم عن بقية المجتمع السوري الأوسع، وتجعلهم معتمدين على النظام.
بيد أن الفوائد التي توفّرها الضاحية لها ثمن فادح. فبعد انتقالهم إلى السكن العسكري، يستكمل الضباط عملياً استتباعهم، رابطين مصيرهم الشخصي ومصير عائلاتهم ببقاء النظام. كل مقومات حياة الضابط، والاحترام الاجتماعي الذي يترافق معها، تأتي بالتالي من النظام وتعتمد عليه. في العام 2000، عند وفاة الرئيس آنذاك حافظ الأسد، أرسل العديد من ضباط ضاحية الأسد عائلاتهم إلى قراهم بانتظار حصيلة عملية الخلافة، ولم تعد هذه العائلات إلا بعد أن تم تثبيت بشار كرئيس جديد. لقد فهم الضباط أن حياتهم في دمشق مشروطة ببقاء النظام وليس بوضعيتهم كموظفي دولة أو عناصر في السلك العسكري.
تشي عملية التطوير العشوائية للضاحية بأن دورها في لحم مشاعر الولاء للنظام لم تكن مقصودة، بل كانت حصيلة غير متعمّدة لسنوات طوال من سوء الإدارة ومحاباة الأقارب. وهكذا، كان في مقدور النظام الاستناد إلى الفساد الداخلي في الضاحية وعزلتها عن المجتمع الأوسع لتعزيز علاقاته بالضباط الذين يعيشون هناك، وتأمين ولائهم الذي لا يتزعزع. وحين تحولت الثورة إلى حرب، صبّت "غيتوية" سلك الضباط في خانة النظام، ودفعت العديد من الضباط إلى اعتبار الثورة تهديداً شخصياً لأصولهم المادية ونمط حياتهم. هذا النظام المتماسك كان هدفه الرئيس حماية نظام النفعيات لا الالتزام بولاء أيديولوجي.
وعلى الرغم من حدوث انشقاقات فردية في صفوف الضباط الذين يعيشون خارج نظام السكن العسكري، إلا أنه لم تُسجَّل منذ أواسط 2015 سوى حادثة واحدة ترك فيها ضابط ضاحية الأسد كي ينضم إلى المعارضة. وهذا الضابط كان على أية حال متقاعداً. لقد تحوّلت الضاحية من منطقة سكنية إلى ما يشبه قاعدة عسكرية شديدة التحصين، يعتبر الضباط أنهم قادرون فيها على الدفاع عن أنفسهم بشكل مشترك، وبالاستتباع عن جيش الأسد ونظامه.
ضاحية الأسد: هدية الرئيس
يوجد في سورية نظامان للسكن العسكري: الأول، يوفّر للضباط وعائلاتهم السكن في مجمّعات الجيش خلال الخدمة الفعلية -على غرار منطقة الإسكان في قطنا في دمشق، والريان في حمص، وصيدا في درعا -من دون منح الملكية إلى الضباط. والنظام الثاني، هو برنامج شراء منزل مدعوم من الدولة يمكّن الضباط من شراء بيوت بأسعار متهاودة في مناطق سكنية يديرها الجيش. نظرياً، أي ضابط يمكن أن يتقدّم بطلب تسجيل على منزل، بيد أن الحصول عليه يعتمد إلى حدٍّ كبير على مِنَّة من أولئك الذين يقبعون في السلطة كأمر واقع، أو يملكون سلطة منح أو حجب الملكية.
ضاحية الأسد حتى الآن أكبر نموذج لبرنامج شراء منزل بدعمٍ من الدولة. البرامج الأخرى موجودة في دير الزور، وحلب، وطرطوس. عام 2003، أنهى الجيش برنامجاً كان يعطي الضباط الجدد فرصة التقدم بطلب امتلاك منزل في مجمّعات سكنية عسكرية، ووضع بدلاً منه في عام 2005 برنامج قرض بمبلغ مليون ليرة سورية (نحو 20 ألف دولار) للضابط، يتم تقسيطه من الراتب الشهري. ما حدّ من عرض المنازل في الضاحية وفي مناطق ينطبق عليها برنامج السكن العسكري نفسه، فجعل المنازل القائمة أكثر قيمة ومدار اشتهاء.
من غير المحتمل، أن تكون ضاحية الأسد قد صُمِّمت أصلاً لتكون جزءاً من خطة النظام بعيدة المدى للحفاظ على تماسك سلك الضباط. ففي البداية، كانت هذه المنطقة توفّر المنازل لضباط الجيش، ولاحقاً أصبحت هدف استثمارات ومضاربات في الملكية التجارية. والحال أن دعم سلك الضباط بقوة للنظام، لم يكن حصيلة مفروغ منها حين بدأت الانتفاضة في عام 2011، لكن النظام استند إلى عقود من سوء الإدارة، والفساد، والزبائنية، لضمان ولاء الضباط ولتحويل الضاحية إلى معقل للجيش وللدعم الأيديولوجي.
التطوير العشوائي
بُنيت ضاحية الأسد أولاً عام 1982، بعد أن أصدر حافظ الأسد مرسوماً تنفيذياً قضى بتشييد منازل للضباط وعائلاتهم. واللوحة المعدنية عند المدخل الرئيس للضاحية لاتزال تعلن أنها "هدية الرئيس حافظ الأسد إلى ضباط الجيش العربي السوري وعائلاتهم".
بدأ تشييد الضاحية بإشراف شركة الإسكان العسكري، لكن مؤسسة تنفيذ الإنشاءات العسكرية تحمّلت مسؤولية المشروع منذ أواخر الثمانينيات. شركة الإسكان العسكري، التي تُشرف عليها وزارة الدفاع، هي أرفع مؤسسة مسؤولة عن الإسكان العسكري في سورية. وفي حين أنها لا تقوم هي نفسها بعمليات البناء، إلا أنها المقاول الرئيس. أما مؤسسة تنفيذ الإنشاءات العسكرية، فهي بالفعل عبارة عن شركة عقارات ومقاول عام، وتدير العديد من مشاريع القطاع العام والخاص.
صُمِّمَ البناء كي يجري في إطار سلسلة من خطط التطوير متعدّدة الطبقات، وتضمنت التنسيق مع مختلف المؤسسات الحكومية لتوفير الخدمات الضرورية. آنذاك، وضع مصطفى طلاس، الذي كان وزيراً للدفاع، حجر الأساس للمجمّع السكني في 1985، وبدأ الضباط ينتقلون إليه في أوائل التسعينيات. وبدءاً من مارس/ آذار 2011، غطى المشروع 250 هكتاراً (الهكتار عشرة آلاف متر مربع) ووفّر السكن لأكثر من 100 ألف نسمة.
وعلى عكس الانطباع الشعبي، ليست منطقة الضاحية السكنية فخمة ولا هي موطن كبار الضباط. وعلى الرغم من تنامي سكانها، لاتزال معظم مناطق الضاحية تفتقد إلى خدمات أساسية رئيسة. لا بل تُعتبر نوعية وتوافر الخدمات في الضاحية متأخرَيْن كثيراً عن الأحياء الأخرى في العاصمة السورية، بسبب نقص التنسيق بين مؤسسات الإسكان العسكري وبين الحكومة المدنية التي توفّر الخدمات.
"غيتو" الضباط: نظام خدمات
كان الجيش يعمد عادة إلى صياغة عملية شراء منزل في الضاحية على أنها بمثابة التزام مدى الحياة للنظام. فغداة تخرجه برتبة ملازم أوّل -وهي الرتبة الأولية للضابط في الجيش -يدخل الطالب في الكلية الحربية فترة انتظار تتراوح بين 10 إلى 15 سنة، يتم خلالها اقتطاع 5-7 في المئة من راتبه كدفعة أولى محتملة لشراء منزل. خلال هذه المرحلة أيضاً، يبقى العسكريون وعائلاتهم في مساكن عسكرية مجانية مؤقتة.
تستقبل الضاحية غالباً ضباط الرتب المتوسطة، حيث أن رتب الغالبية الكاسحة من سلك الضباط هناك تتراوح بين رائد وعميد. أما الضباط من ذوي الرتب الأعلى، فيقطنون مناطق النخبة داخل دمشق.
وفّر الإسكان العسكري للكثير من الضباط فرصة نادرة لارتقاء السلّم الاجتماعي. فضابط الجيش النموذجي الذي يعيش في ضاحية الأسد ينتمي إلى الطبقة الوسطى-الدنيا، بغض النظر عن طائفته، ويتحدّر من الريف أو المناطق الساحلية حيث الآفاق الاقتصادية كالحة. الجيش هو أحد المداخل القليلة المفتوحة أمام الشبان، وهو يوفّر لهم درجة من الوضعية الاجتماعية، والأجر اللائق، وآفاق تملّك منزل (في العاصمة التي يعتبرها الكثيرون ذروة النجاح الشخصي). كما يُعتبر المنزل في الضاحية مكاناً يستطيع الضباط العيش فيه فيما هم يقومون بالخدمة، ثم يمكنهم أن يتقاعدوا فيه.
الانتقال إلى دمشق يحسِّن كذلك الرصيد الاجتماعي لكل أفراد عائلة الضابط. فالسكنى في الضاحية توفِّر لأطفال الضابط فرصة الترعرع والدراسة في العاصمة.
ثمة منافع أخرى وراء العيش في الضاحية. وهذه يمكن تلمّسها حين ندخل إلى بيوت الضباط. علاوةً على ذلك، هناك البطانيات والصابون الذي يصدّره الجيش، والخبز الذي يأتي من مكاتب عسكرية خاصة، وبطاقات الوقود. كل هذا يُقدَّم إلى الضباط بأسعار متهاودة أو مجّاناً. يتلقى الضباط أيضاً اشتراكات مجانية في كل الصحف الحكومية الثلاث (الثورة، وتشرين، والبعث). ويستلم كل ضابط شهادة إتمام التدريب العسكري موقّعة شخصياً من الرئيس، جنباً إلى جنب مع صورة التُقطت مع الرئيس تُعلَّق على أحد جدران غرفة الجلوس. قد لا تبدو هذه الأمور ترفاً كتلك السلع التي قد يرومها ساكن دمشقي ثري، لكن الضباط يثمّنون هذه العطايا لأنهم يتحدّرون غالباً من الطبقة الوسطى-الدنيا أو من أصول ريفية.
نمط من التضامن
إلى جانب الفوائد المادية، يُعتبر نظام السكن العسكري مركزياً لتنمية هوية مشتركة بين الضباط من ذوي الرتب المتوسطة. فالسكنى في الضاحية هي نمط حياة كلّي وشامل. إذ أن العيش معاً مع أشخاص يتأقلمون مع حياة المدن، يساعد على بناء الشعور بالتضامن. بيد أن السكنى في الضاحية تضع الضباط وعائلاتهم بين رحى عالمَيْن: المدينة التي يعيشون على حوافيها والقرى التي أتوا منها. في العاصمة، يُعتبرون من الريف، وفي القرى والقصبات التي أتوا منها يُعتبَرون من أهل المدن. مثل هذه الهوية الهجينة تعزّز ارتباط الضباط بالضاحية مع كل ما تمثل، وهي منتشرة على نطاق واسع بين أطفال الضباط الذين ترعرعوا في الضاحية وأرسوا هويتهم على أرضها.
عزل المجتمع الأوسع والانعزال عنه
تؤدي الفوائد المتوافرة للضباط، جنباً إلى جنب مع تشاطر الهوية التي تتغذى من وقائع الضاحية وموقعها، إلى حشر الضباط في "غيتوات" داخل محيط الضاحية. ففي حقبة الثمانينيات، لم يكن هناك سوى القليل من التفاعل بين الضاحية وبين مناطق البرزة ودوما وحرستا. وفي أعقاب الإصلاحات الاقتصادية في التسعينيات وفي العقد الأول الماضي، افتتح بعض سكان دوما وحرستا مشاريع صغيرة في الضاحية، بما في ذلك أسواق مركزية، وأسواق خضار، ومتاجر جزارة. بيد أن هذه الأشكال من التفاعلات التجارية والاجتماعية كانت الاستثناء لا القاعدة. أما طلاب الضاحية فكانوا يُرسَلون إلى معسكرات الطليعة التابعة لحزب البعث في دوما. ولأن الضاحية بقيت تابعة لحرستا إدارياً، فإن سكانها كانوا يتوجهون إلى هناك للحصول على بعض الخدمات الرسمية والمستندات الرسمية.
مع انتفاضة عام 2011، ازدادت الهوة بين سكان الضاحية وبين من هم خارجها. فبالنسبة إلى المجتمع السوري الأوسع، الشخص الذي يعيش في الضاحية مرتبطٌ بالنظام لا محالة. وهذا ما يعزز الموقف الدفاعي لدى هؤلاء الضباط في الضاحية في مواجهة بقية المجتمع. فسواء كان الضباط على المستوى الشخصي يدعمون نظام الأسد أم لا، فإن مجرد إقامتهم في ضاحية الأسد، ومواقعهم في الجيش، وغالباً طوائفهم وأصولهم، تؤدّي كلها دوراً في تواصل الانطباع لدى الضباط بأنهم مستهدفون من جانب أنصار المعارضة.
روابط فيما يتعدى الطائفة
لا تلعب الطائفة دوراً رسمياً في الجيش أو في الضاحية، لأن هذا يجافي مزاعم النظام العلمانية. بيد أن السكن العسكري لم يجسر الهوة بين ضباط الجيش المنتمين إلى مختلف الطوائف. الانقسام وانعدام الثقة تواصلا، لا بل تفاقما، بين العلويين وغير العلويين منذ اندلاع الانتفاضة. وحتى في داخل كل طائفة، كانت ثمة انقسامات على خطوط مناطقية وعائلية.
وعلى الرغم من أن معظم الضباط هم من العلويين، لا يبدو أن هناك فرقاً واضحاً بينهم وبين الضباط غير العلويين من حيث الطريقة التي يقلقون بها حيال التهديدات الخارجية. على سبيل المثال، يعتبر ضابطٌ سنّي، هو أساساً من درعا لكنه يعيش الآن في الضاحية، نفسه ضابطاً أولاً وقبل كل شيء. وحين سُئل عمن يختار بين الضاحية ودرعا، أجاب بلا تردّد:" أنا من أهل الضاحية". وعلى الرغم من أن الضابط لاحظ أن أجهزة الأمن ارتكبت أعمال عنف، إلا أنه أنحى بلائمة إطلاق العنان للفوضى على المعارضة.
الطائفة ومسقط الرأس لا يزالان مهمَّيْن في حياة الضاحية. وحين انطلقت المظاهرات في درعا عام 2011، تجنّب الضباط السنّة التجمع واللقاءات الاجتماعية معاً لمنع بروز الشكوك. بيد أن الطائفية لعبت دوراً مختلفاً لدى الضباط العلويين. فالانتفاضة عمَّقت إحساسهم بالعزلة عن غير العلويين، ودفعتهم إلى الاعتماد أكثر على الجيش من أجل الدفاع عن أنفسهم.
كان لانتفاضة عام 2011 دورٌ رئيس في دفع الضباط العلويين إلى التشابك أكثر مع الجيش، من دون أن يعني ذلك بالضرورة تعزيز الروابط بينهم وبين المدنيين العلويين. وقد وصف ضابط علوي حي عش الورور ذا الغالبية العلوية كالآتي: "عش الورور قريب من الضاحية، لكنني لم أتوجّه إلى هناك أبداً. الناس هناك أولاد شوارع". قبيل الانتفاضة، اعتاد الضابط وعائلته على القول إن علويي عش الورور "بقر وشراشيح". وأعربت ابنة ضابط آخر من الضاحية عن مشاعر مماثلة حول علويي عش الورور: "الضابط العلوي أقرب إلى الضابط السنّي منه إلى علويي عش الورور، لأنه يقول إن هؤلاء الأخيرين أدنى منه قيمة. والدتي تتحدث بشكل سيء عن ناس عش الورور، لأنهم يعطون انطباعاً سلبياً عن العلويين في دمشق".
وبعد أن تعرَّض عش الورور إلى هجوم الثوار في منطقة برزة، بدأ الضباط العلويون في ضاحية الأسد يصفون ناس عش الورور بأنهم "فقراء" و"بسطاء و"يستحقون الشفقة والحماية". بيد أن ضباط الضاحية لم يهرعوا إلى دعم السكان في معركتهم مع الثوار، كما لم تنشأ، مع تطور النزاع، روابط جديدة بين هاتين الجماعتين العلويتين، على الرغم من تشاطرهما الموقف نفسه على خطوط الصدع الطائفي.
معقل التعبئة المضادة للنظام
على الرغم من أن الاحتجاجات الأولية عام 2011 كانت سياسية بطبيعتها وتستهدف على وجه التحديد تغيير توجهات نظام الأسد، إلا أن عزلة سكان الضاحية أدّت بالضباط وعائلاتهم إلى الاعتقاد بأن المحتجّين يشكّلون تهديداً ليس للنظام وحسب بل أيضاً لهم شخصياً.
لقد جعلت الانتفاضة سكان الضاحية أكثر شكاً بالمناطق المجاورة الأخرى. كان الضباط يطلبون بشكل متكرر من أولادهم عدم جعل سائقي التاكسي يعرفون أنهم من ضاحية الأسد، ولا عن الوجهة التي يقصدون. الشائعات كانت منتشرة، بما في ذلك رواية غير مؤكدة عن ابنة ضابط من الضاحية اختُطفت ثم لاحقاً قُتلت على أيدي مجرمين من دوما. وثمة رواية أخرى غير مؤكدة أيضاً منتشرة في الضاحية تتحدّث عن سائق تاكسي يخطف ويقتل ويقطّع أوصال فتى من الضاحية.
عززت انتفاضة عام 2011 الانطباع بين ضباط الضاحية بأن دفاعات المنطقة تحتاج إلى تعزيز. وفي هذا السياق، تمت بشكل كامل إعادة التوكيد على الهوية العسكرية لضاحية الأسد. وهكذا تحوّلت الضاحية إلى منصة عسكرية تنطلق منها الهجمات على المناطق المجاورة الموالية للمعارضة. البنى التحتية العسكرية التي أُدمجت بالمنطقة السكنية قبل الانتفاضة وُضعت فجأة قيد الاستعمال الكامل. وعلى سبيل المثال، جرى استخدام كلٍّ من الملكيات التابعة لوزارة الموارد المائية ومدرسة لشرطة المرور كمواقع مدفعية لقصف الثوار في منطقتَي حرستا وبرزة المجاورتين. هذا النوع من الأعمال يكشف عن مدى سيطرة جيش الأسد على الضاحية، وأيضاً عن الاعتقاد لدى سكانها بأن النظام حائز على السيطرة النهائية على المنطقة.
في يونيو/ حزيران 2012، تقدّم الجيش السوري الحر نحو الضاحية، فبدأ عناصر النظام بتنظيم أبناء الضباط (ومعظمهم من العلويين) في قوات الدفاع الوطني، وهي لجان أمن أهلية أخذت على عاتقها الأمن الداخلي في الضاحية. ومع تحوّل قصف الثوار إلى أمر روتيني، أقامت قوات الدفاع الوطني حواجز تفتيش في كل أنحاء المنطقة، وباتت عرباتها العسكرية كلية الوجود، فيما نُصِبت مدافع رشاشة من طراز دوشكا فوق شاحنات البيك أب والدبابات خلال القيام بدوريات في الضاحية.
أجبر انعدام الأمن والعسكرة المستندة إلى الطائفية السكان المدنيين (السنّة على وجه الخصوص) الذين تدفقوا إلى الضاحية خلال الازدهار الاقتصادي في العقد الماضي إلى مغادرة المنطقة.
حالما اندلع النزاع، بات المعيار المُحدّد للانتماء إلى الضاحية هو الارتباط الواضح بنظام الأسد مع رموزه. قبل انتفاضة عام 2011، كانت الشعائر الموالية للنظام ليست شائعة في الضاحية أكثر منها في معظم مناطق العاصمة. لكن التجوّل في شوارع الضاحية منذ ذلك الحين يكشف بالملموس عن مدى التحوّل. فالأعلام السورية وصور الأسد منتشرة في كل مكان، ومعها المجموعات الموالية للنظام التي تدلي بالخطب وتعقد دورياً مهرجانات عامة. النقاشات حول الحرب في الضاحية تميل إلى تبنّي رواية نظام الأسد وتُحاكي غالباً الإعلام الرسمي.
الانضمام إلى قوات الدفاع الوطني كان أحد الوسائل أمام المدنيين لـ"الانتماء" إلى الضاحية. ويتذكّر أحد سكان الضاحية كيف أن مدنياً سورياً فلسطينياً، كان غير قادر على الانضمام إلى الجيش بسبب جنسيته المزدوجة، التحق بدلاً من ذلك بقوات الدفاع الوطني وبدأ يتحدث بلهجة ريفية علوية بهدف إثبات ولائه.
المراقبة
لطالما اخترق عناصر النظام الشركات الخاصة المنوط بها بناء وتوزيع المنازل في ضاحية الأسد. ونتيجةً لذلك، نادراً ما كانت العملية الرسمية العامل الحاسم في التوزيع، بل كانت الروابط الشخصية مع النظام هي هذا العامل الحاسم. وهذا سمح للفساد والرقابة بالازدهار في الضاحية، حيث كان كلٌ من هذين العاملين يغذّي بعضه بعضا.
تقوم مؤسسة تنفيذ الإنشاءات العسكرية، المسؤولة عن العقارات والبناء في الضاحية، بتنفيذ مراقبة غير رسمية لحماية مصالح النظام. أساساً، تعمل المؤسسة بإشراف رسمي من جيش نظام الأسد ولا تخضع إلى مساءلة السلطة القضائية.
كان الفساد هو أداة النظام الرئيسة لكلٍّ من عمليّتَي الاستتباع والمراقبة في الضاحية.
في الضاحية، غالباً ما كان الضباط يتجسّسون على بعضهم بعضا، ويُزوّدون عناصر النظام بمعلومات ذات صلة بالأمن أو بأشخاص ينتقدون النظام. لهذا السبب نسبياً، كان انتقاد الرئيس أو النظام في الضاحية نادراً، على عكس باقي مناطق البلاد حين ساد بعض التسامح في هذا الشأن. أصبح الفساد متجذراً في الضاحية من خلال نظام السكن العسكري. والضابط يعرف أن تحسين مستوى معيشته، بما في ذلك العمل والراتب والسكن له ولعائلته، يستند إلى درجة كبيرة على مدى قدرته على مصادقة عنصر أساسي في النظام. هذه المحسوبية ساعدت على تعزيز بيئة يتنافس فيها الضباط على النفوذ من خلال الوشاية بعضهم ببعض وطعن زملائهم بالظهر. وهذا خلق مناخاً عاماً من المصالح الذاتية الضيقة في الجيش وفي النظام ككل.
خلاصة
لم يكن جيش نظام الأسد هو المستفيد الوحيد من نظام الإسكان المدعوم من الدولة. فعلى مدى عقود عدّة، حصل معلّمو القطاع العام، والعمّال، والعديد من موظفي الدولة على منازل من خلال مشاريع مماثلة. كل ما فعلته ضاحية الأسد هو توفير نافذة على وسائل أكثر يوفّر بموجبها النظام المزايا لموظفي الدولة قبل عام 2011.
في الجيش، لا تفسر الروابط الطائفية وحدها تماماً ولاء الضباط. صحيح أن العلويين يُمسِكون بمعظم مفاصل المواقع القيادية الأكثر أهمية، إلا أن العديد من الضباط من غير العلويين لم ينشقوا، ما يوحي بأن ثمة عوامل أخرى قيد العمل.
نظرة عن كثب في أعمال ضاحية الأسد تشي بأن المزايا الممنوحة للضباط وعائلاتهم -العديد منهم تحدّروا من عائلات متواضعة -تربطهم بالجيش والنظام، بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية أو الأيديولوجية. بيد أن التنوُّع في الضاحية لم يُلغِ الهوية الطائفية ليُحل مكانها هوية سلك ضباط جديدة. شبكات الضاحية ونظام المحسوبية هما اللذان خلقا مصلحة مشتركة في دفع الناس من مختلف الأصول والمشارب إلى الحفاظ على ولائهم للنظام.
على مدى عقود، كان أحد الأدوات الأكثر مضاء في يد نظام الأسد الخاصة بالحفاظ على السيطرة على الجيش ومؤسسات الدولة الأخرى، هي إفساد الضباط من خلال تزويدهم بالمزايا على أسس شخصية لا مؤسسية. لقد أمضى العديد من ضباط جيش نظام الأسد سنوات في محاولة القفز فوق مراتب الطبقة الوسطى-الدنيا التي أتوا منها، وحصلوا على المزايا التي تقدّمها ضاحية الأسد لهم ولعائلاتهم. لكن باحتفاظهم بهذه المنافع، تخلّوا أيضاً عن كل الخيارات الممكنة تقريباً لمغادرة الضاحية. وبالتالي، ليس مستقبل الضباط وحدهم بات على المحك بل مصائر عائلاتهم برمتها. ولهذا السبب، جل الانشقاقات التي حدثت في سلك الضباط منذ عام 2011 تضمّنت ضباطاً لم يستثمروا في نظام السكن العسكري.
إن مدى ونوعية اعتماد ضباط الجيش -وموظفي الدولة الآخرين – على النظام في معيشتهم، وعلى ترقيهم الاجتماعي، ورفاه عائلاتهم، يكشفان عن العامل الحاسم الرئيس الذي شكَّل سلوكياتهم منذ اندلاع الانتفاضة. ومثل هذه الحسابات ستشكّل أيضاً ردودهم على أية عملية انتقال سياسي، في حال تنفيذها في سورية.
تاريخ النشر من المصدر : 04.11.2015
المصدر : مركز كارنيغي للشرق الاوسط
الرابط:
|
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
0 التعليقات Blogger 0 Facebook
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.