"حديث الطائفية".. عدنان الصباح المقداد

في دمشق والساحل السوري نشهد اليوم بوضوح تكون الدولة المذهبية الطائفية وهي في مراحلها الأخيرة، إنه التواجد الكثيف لرعايا إيرانيين وأفغان وعراقيين بالإضافة إلى ميليشيات حزب الله الذين يقاتلون لفرض وجودهم على الأرض السورية، هي ملامح الدولة التي تحاول إيران تأكيد وجودها من خلال سيطرتها على أحياء دمشق.

النظام ما يزال يتهرب من الالتزام بالحلول السياسية ويتمسك بالحل العسكري، بالرغم من أن الحل العسكري اثبت عدم جدواه مع فقدان النظام سيطرته على الأرض. إنه يتشبث بما تبقى له من أمل في فرض دولة قائمة على تجميع العناصر الشيعية لإغراء إيران بالدولة التي باتت تعلن عن جاهزيتها. 

منذ بداية انطلاق الثورة السورية ركز نظام الأسد على تصفية المثقفين والناشطين الذين قادوا التحركات والذين استطاعوا أن يعطوا الثورة لونا متميزا قام على سلميتها وشعاراتها المتميزة واستطاعت أن تخترق كل الحواجز التي حاول النظام حصرها ضمنها وكسبت حاضنة شعبية واسعة وضمت كل أطياف المجتمع السوري وكانوا الهدف الأول له. 

وهي ذات التجربة التي خاضتها السلطات الأمنية عام 1980 مستخدمة العناصر الأكثر طائفية ووحشية في تركيبة النظام الأمنية والتي اعتمدت العنف والإرهاب في أشده. من هنا تصوروا أنهم قادرون على استحضار هذه التجربة ثانية. 

ما حدث في سوريا هو إعلان مصير الثقافة والتاريخ والحضارة والإنسان. لوحة الاصطفاف تداعت إلى الحضور ثانية منذ الأيام الأولى لثورة الشعب السوري وعلى الفور شرعت الانقسامات إلى الظهور ما بين الموالاة للنظام وبين مناصرة الثورة.

ففي حين أبدت الأقليات تخوفها تلقى النظام تطمينات روسية وإيرانية وتدفقت الميليشيات الشيعية، وبدأ التحشيد الطائفي الشيعي وحملات التسليح، وعلى مستوى النظام قام بتجميع العناصر الطائفية العلوية من جميع قطعات الجيش في المخابرات الجوية والفرقة الرابعة والحرس الجمهوري التي لم تلبث أن سيطرت على أحياء مدينة دمشق عبر انتشار حواجزها الشهيرة التي قتلت واعتقلت وخطفت عشرات آلاف الناشطين والمثقفين. 

موقف الإنسان المبدع يجب أن يكون بغض النظر عن لوحة الاصطفاف ..أنت تنحاز إلى الشعب المظلوم والحقيقة التاريخية ..لا يمكن أن تمثل السقوط ثم تسقط في السقوط ..في الوقت الذي تحول فيه النظام إلى آلة تقتل كل من يقف في طريقها جرى تحول آخر هروب جميع المثقفين وأغلب الناشطين إلى الخارج تحت ضغط عمليات التعذيب المريعة التي نفذتها عناصر النظام الطائفية وما يسمى بالشبيحة، ومن ثم انكفاء الحركة المنفتحة أمام عنف النظام.

التوجه الديني للثورة بدا واضحا كردة فعل أمام استهداف النظام الطائفي للمكون السني والذي أخذ طابع الإبادة الشاملة والقتل على الهوية وتخليص الثورة من سلاحها الأكثر تأثيرا "السلمية"، وقد رافق عمليات الإبادة إخلاء المناطق الثائرة من السكان ونهب بيوتهم والاستيلاء على ممتلكاتهم حيث بدأت سياسة إفقار الشعب. 

..النظام أخلى سوريا من السكان .. وكل يوم يقولون لي إن كل الناس يغادرون سوريا ...لم يبق أحد. الكثير من الناس يبيعون بيوتهم لقاء تذكرة المغادرة.

يكثر الحديث عن الطائفية ويكثر المستنكرون، غير أن حديث الطائفية يعكس حقيقة الجانب الذي أثقل على المجتمع وهو ما مارسه النظام من العنصرية والاستثناء والتمييز التطرف والاستئثار بالثروة والدولة والجيش والوظائف الحساسة لصالح الطائفة التي احتكرت السلطة مطولا .. وبدا الظلم الشديد في علاقتها بالمجتمع.

ما يجري الآن هو حرب طائفية علنية قادها ويقودها النظام ويوجهها ويفرضها على الشعب السوري عبر القتل الممنهج والشعارات التي يطرحها الشبيحة والفرقة الرابعة والحرس الجمهوري والمخابرات الجوية وميليشيات الشيعة، بروح الانتقام والحقد التاريخي. 

التغيير الذي طمحت إليه الثورة قابله على صعيد السلطة تغيير حافل بالصيغة الطائفية حيث بادرت إلى طرح مفهومها الوحيد عن السلطة العلوية واختارت الحل العسكري (الحذاء العسكري) بالصورة المهينة الذي جعل هدفه القضاء على المناطق والمدن التي ثارت ضده وتدميرها (الأسد أو ندمر البلد)، عن طريق القتل والتهجير والتعفيش والاستيلاء على الأملاك وإحراق البيوت. 

الطائفية مورست وتمارس على الأرض مباشرة من قبل سلطة النظام والقوات المسلحة وعصابات الشبيحة، أما الثورة فلم يكن لها أي طابع طائفي، أما التحول الحالي فهو إصرار النظام على التغيير الذي يريده وهو إخلاء المدن من السكان عن طريق إبادتهم وتدمير مساكنهم وتهجيرهم. 

ومن الملامح المريعة محاصرة السكان وقطع سبل الحياة عنهم وقتلهم عن طريق التجويع وانتشار الأمراض واستهداف فرق الإغاثة والمشافي إلى حرق المحاصيل. وأصبح مصدرا للإرهاب والفوضى.

الحديث عن طائفية النظام يلقى دائما الاستنكار من قبل المثقفين، فالثورة في وضع حرج وتعاني من الكثير من الأمراض نتيجة استطالة الزمن وتحول الصراع إلى حرب طويلة الأمد وعدم لجوء الثوار إلى الحسم وتجميع قواهم. 

لم أتطرق إلى الحديث الطائفي إلا لأعبر عن الجانب المفقود في حياتنا، ألا وهو الوطن المسروق ثم الوطنية التي أريق دمها تحت أقدام لصوص الثورة والمعاناة الشديدة للنازحين في دول الجوار هذه التجربة التي تركت جرحا عميقا في الجسد السوري ومنع أن يكون له هيئاته المدنية التي ترعى وجوده الإنساني.

إضافة إلى عجز المعارضة عن استثمار انتصارات الثوار في المراحل اللاحقة على المستوى السياسي وسقوطها في فخ الولاءات الخارجية وانتظار الدعم الخارجي الذي تحكم في حركة الثوار. 

لم تكن التعبيرات السياسيه من ائتلاف وغيره مضطرة لكل تلك التنازلات التي تقدمها لهذا الطرف أو ذاك كل يوم.

هذا يدل على عدم قدرة المعارضة على امتلاك الرؤية ويعكس تشتتها وتصوراتها المأزومة وإنه ليس لديها إستراتيجية ثورية حقة وأغلبها من المتسلقين الباحثين عن مصالحهم الشخصية وأمانهم الفردي، ولو أنها امتلكت الإرادة وكانت مستقلة لفرضت وجودها على العالم ولكنها قدمت صورة خرقاء عن نفسها كون هؤلاء الأشخاص لا يمثلون ثورة وإنما يمثلون أنفسهم فقط ...هؤلاء لا يتعلمون ولا يقدمون تجربة شعب يتعرض للإبادة و يمحى ويزال عن وجه الأرض بأبشع الصور الطائفية.

الفخ الثاني هو الخطاب الديني فالبيئة التي أنتجها النظام وخلفها بعد خمس سنين من الصراع هي بيئة فقيرة خالية من الفكرة التي تبنى عليها الثورة فقد خلا المجتمع السوري من أبنائه الفاعلين القادرين على إنتاج بيئة بديلة تحوي التنوع والتلون الذي تتطلبه الحياة وإنشاء مؤسسات مدنية تحوي ملامح الدولة القادمة.

إن التعبيرات السياسية الحالية ليس الائتلاف وحده المسؤول عنها بل المثقفين المحسوبين على الثورة والهيئات المختلفة التي كان يجب أن تنتزع وجودها وتفرضه على الداخل والخارج عبر علاقة سليمة مع الذات والثورة في الوقت الذي تحكمت فيه اللامبالاة وتقبل حالة الموت اليومي وتبلد الإحساس. المثقفون غير متواجدين وليس لهم أي حضور ولا يقومون بأي حملات حقيقية ما عدا التعبير عن الألم والقلق على وطن متروك لوحشية النظام الطائفي والميليشيات الشيعية القذرة للأسف. 

أظن أن مزاج بعض المثقفين يلتقي مع مزاج البعض من الناس المنزوين بعيدا المستسلمين والمتعبين لدرجة أنهم لا ينحازون إلا للخوف والرعب، وربما يرون في الثورة السبب في خراب سوريا فالنقمة التي يحملونها تستبعد النظام، والبعض يرى أنه كان يجب ترك النظام يسقط من تلقاء نفسه بفعل التراكم التاريخي وعدم التحرش به، فالهاوية يمكن أن تطال جزءا من الشعب. 

الرخاوة هي النأي بالنفس والجلوس في الظل والتضحية بمدينة على مذبح النظام.

وكما جرى في الثمانينات ممارسة الصمت، حيث يفضل عدم تعريض سوريا لغضب آلة الحقد والانتقام المتشبثة بالسلطة، كون الصراع في النهاية يتركز في صراع على السلطة.

الحديث في مجمله يمكن أن يتحول إلى لغو في ظل العجز الكامل، النظام فرز أكلة لحوم البشر ليجعل من الضحايا زمانا ومكانا منسيين، النظام السوري هو جزء من المنظومة الدولية التي تصوغ منطق القوة وتحول بين الإنسان وأفكاره ..وهو يؤدي وظيفته على أكمل وجه.

والمؤسسات الدولية اعتادت الوضع الحالي وهي غير مهتمة بما يحدث بقدر يخدم مصالحها، حيث تتحول بلادنا إلى مسرح يحسم فيه الجميع صراعاتهم. إنها رحلة الظلم والمهانة الإنسانية والأيدي المغلولة واضمحلال الروح الوطنية.
زمان الوصل

0 التعليقات Blogger 0 Facebook

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

 
Syrian Revolution in Switzerland © 2018. جميع الحقوق محفوظة. اتصل بنا
Top