المواد المنشورة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع...
تاريخ النشر : 08.09.2015
الدولة السورية ونظام بشار الأسد هما كيانان متميّزان عن بعضهما بعضا، لكنهما دائمَي التفاعل. وحين استولى الرئيس السابق حافظ الأسد على السلطة في انقلاب عسكري عام 1970، كانت مؤسسات الدولة مترسّخة ولديها بيروقراطية وبنى تحتية قادرة على خدمة كل البلاد. وخلال العقود الثلاثة من حكمه، تغلغَلَ النظام بكثافة في أجهزة الدولة، خاصة مراتبها العليا، من خلال شبكات من المحسوبيات والقرابات العائلية والفساد وأعاد وسم مؤسسات الدولة برموز عائلة الأسد، فعلّق صور الرئيس في المكاتب الحكومية وأقام تماثيله ونُصبه في مواقع المُلكية العامة.
والحال أنه طيلة 40 عاماً في ظلّ حكم حزب البعث، أزال الرئيسان حافظ الأسد وابنه بشار الحدود بين النظام (وهو كناية عن توليفة من شبكات عائلية غير رسمية، وفئوية، ودينية وشبكات أخرى، عاملة جميعها داخل الإطار المؤسسي للدولة وخارجه)، وبين الدولة السورية (وهي الجهاز الذي يُدير البلاد ويوفّر الخدمات).
وعلى الرغم من أربع سنوات من الحرب، لاتزال قبضة النظام على الدولة تُمكِّنه من إجبار السوريين والمجتمع الدولي على حدّ سواء، على التعاطي معه على أنه السلطة السياسية الشرعية في البلاد، وعلى تقبُّل الفكرة بأن نظام الأسد هو بالفعل الدولة السورية. فقد عمد إلى تكثيف جهوده لدمج نفسه أكثر في مؤسسات الدولة حين بدأت الانتفاضة في أوائل 2011، بعد أن أحسّ أن وجوده بات في خطر. وهكذا ربط الأسد في خطبه وبياناته بين مصير النظام والبلاد ككلّ، وكرّر على نحو منتظم أن رحيله عن السلطة سيقود إلى انهيار سورية. وكما قال الأسد في مقابلة مع "بي. بي. سي." في فبراير/شباط: "الأمر لا يتعلّق ببقائي، بل ببقاء سورية".
ومنذ الأيام الأولى للانتفاضة السورية في العام 2011، أحكم نظام بشار الأسد قبضته على الدولة السورية وسير عمل مؤسساتها؛ فمنذ نشوب الحرب، عمد النظام إلى مركزة العديد من وظائفه الإدارية، فوزّع الخدمات الأساسية على مدن المحافظات السورية، حيث تنتشر القوات التابعة له، بدلاً من مواقع في الريف، كما فعل قبيل الانتفاضة. وهذا ما شجّع جمهرة واسعة من النازحين المدنيين على الانتقال إلى هذه المناطق (ما عزّز السردية العامة للنظام بأن مهمته العليا ليست حماية نفسه بل صون الدولة).
جرى على نحو متصل عسكرة المدن السورية التي تقع فيها المكاتب الإدارية، من خلال نشر فرق الجيش وإقامة القواعد العسكرية. المثل الساطع على ذلك هو مركز درعا في جنوب سورية الخاضع إلى النظام، حيث تم في 2012 تحويل ستاد رياضي إلى قاعدة عسكرية تنطلق منها الحوامات لشنّ الهجمات. وبالمثل، جرى على عجل تحويل مخيّم في إدلب استخدمته منظمة بعثية شبايبة (طلائع البعث) إلى قاعدة عسكرية.
إضافة إلى القوات العسكرية النظامية، نُشِرَت على نطاق واسع ميليشيات تم تجنيدها محلياً. كما سلّح النظام بشكل مباشر سكاناً محليين ونظّمهم في لجان شعبية محلية. وفي حين أن حافز العديدين يتمثّل في الرغبة بالدفاع عن أحيائهم أكثر من ربط أنفسهم أيديولوجياً أو سياسياً بالنظام، إلا أنهم يساهمون لا محالة في الجهود الأمنية للنظام.
في الوقت نفسه، أبقى النظام عملياً على ارتباط المناطق الخاضعة إلى سيطرة المعارضة بمؤسسات الدولة. وعلى سبيل المثال، يتعيّن على الأشخاص الذين يقطنون ضواحي درعا أن يتوجّهوا إلى مقرات مكاتب النظام في مركز المدينة للحصول على الأوراق الرسمية ومرتّبات الدولة.
كل هذا خلق اقتصاداً جزئياً غير رسمي، حيث ينقل أشخاص مرتّبات ووثائق من النظام إلى مناطق تسيطر عليها المعارضة، في مقابل رشى وافرة. فكلٌّ من الوسيط وموظف الحكومة الذي يقوم على هذه الخدمات يتقاضيان عمولة، بما يخرق سياسة الدولة القاضية بضرورة حضور المستلم. وهذا ما يوفّر لهذين الطرفين ولمجتمعاتهما الصغيرة دخلاً إضافياً ودرجة من البحوحة النسبية.
بعد توسّع النزاع مع الوقت، فإن المسكة الخانقة للنظام على عنق الدولة ستستهلك قدرته المؤسسية على خدمة الجمهور. فبدلاً من بذل الضغط على النظام للتوصل إلى تسويات، تُفاقِم الحرب من نزعة الفساد والزبائنية في مؤسسات الحكومة، ما يدفع النظام إلى زيادة تغلغله في جهاز الإدارة المدنية وإحكام قبضته على الدولة السورية. وعلى سبيل المثال، يخلق بيع الوثائق الرسمية حوافز لدى الموظفين الرسميين للبقاء على ولائهم للدولة (بهدف مواصلة اقتناص الرشى)، ويشجّعهم على إصدار الوثائق بطريقة انتقائية (أي فقط لأولئك القادرين على الدفع).
إن استخدام النظام للدولة كسلاح، له تأثير مُدمِّر أكثر على الدولة نفسها. ففي وادي بردى، في ضواحي دمشق، تُواصِل الحكومة دفع رواتب المعلمين، وتوفّر المواد التعليمية للمجتمعات المحلية، حتى بعد أن سقطت المنطقة في أيدي المعارضة. بيد أن النظام طبَّق وظائف الدولة هذه بطريقة استنسابية، فطَرَدَ من العمل المعلمين النشطين في صفوف المعارضة، واعتقل أي طالب عمل مع المعارضة حين كان يغادر وادي بردى لتقديم امتحانات الشهادة الثانوية. وبالتالي، استخدام الدولة كسلاح على هذا النحو، يحرم الدولة من الموظفين الأكفاء، ما يلحق ضرراً فادحاً بالفعالية على المدى الطويل.
مع ذلك فإن نظام الأسد لن يُنقِذ الدولة السورية. إذ منذ أن اندلعت الحرب، واصل حماية المنشآت العامة أو توفير الخدمات فقط حين يساعده ذلك على الحفاظ على مصالحه. وحالما بدأت المعارضة تحقّق مكاسب، وتستولي على المنشآت العامة، وتحاول القيام بالدور الخدماتي نفسه، كان النظام يردّ بقصف هذه المنشآت نفسها التي جهد للغاية لحمايتها.
وفيما يفتقد النظام إلى الموارد، سيعمد بشكل مطّرد إلى ربط المداخل إلى خدمات الدولة بمسألة الولاء للنظام، ويسمح فقط لأولئك المنخرطين في شبكات فساده أن يفيدوا من توفير الخدمات. وهذا سيزيد في نهاية المطاف من ربط المزيد من المواطنين السوريين به، فيما هو يقذف جانباً قسماً كبيراً من السكان إلى خارج الدولة أو يرميهم إلى أحضان تنظيم "الدولة الإسلامية". ثمة مثال واضح على هذا المنحى برز في مايو /أيار 2015، حين أصدر النظام مرسوماً جديداً يسمح للسوريين الذين يعيشون خارج البلاد بتجديد جوازات سفرهم في مكاتب قنصلية خارجية مقابل 400 دولار لكل جواز، ما يؤدي إلى تغذية الخزينة الحكومية. ويتعيّن على السوريين الذين يريدون الحصول على جواز سفر جديد، إضافة إلى دفع رسوم مُكلِفة لا يستطيع الكثير منهم تحمُّل عبئها، أن يتّخذوا إجراءات بيروقراطية لانهاية لها. لكن يمكن تسريع هذه الإجراءات فقط عبر رشوة موظّفي القنصلية.
كما منع نظام الأسد قيام البدائل: ففي ضوء التعريف المُبهَم للمعارضة السورية المعتدلة، وطبيعتها المتفكّكة، فهي تطرح التهديد الأكبر لحكم الأسد، ما قد يساعد على شرح السبب في قرار النظام توجيه حملاته العسكرية الأشد عنفاً إلى هذه المنطقة تحديداً. وقد أدّى الضغط الكبير الذي يمارسه النظام على المعارضة المعتدلة دوراً بارزاً في إبقائها منقسمة وغير قادرة لا على وضع مقاربة موحّدة للإدارة المحليّة، ولا على توفير الخدمات في كل مناطق البلاد الواقعة تحت سيطرتها.
إلى جانب المعارضة المعتدلة، حقّقت مجموعتان في سورية درجات مختلفة من الاستقلالية الجزئية: الأكراد – بقيادة حزب الاتحاد الديمقراطي في سورية وفروع حزب العمّال الكردستاني التركي – وتنظيم "الدولة الإسلامية". ظهرت هاتان المجموعتان على أنهما أقوى وأكثر تنظيماً في المناطق الواقعة تحت سيطرتهما من المجموعات المتمرّدة الأكثر اعتدالاً، وحقّقتا بالتالي بعض النجاح في بناء نظم حوكمة وخدمات موازية.
وكمثال حي ما حدث في الغوطة الشرقية: حيث حقّقت دوما، وهي مدينةٌ أخرى خاضعة إلى سيطرة المعارضة المسلحة، نجاحاً مؤقّتاً في توفير بديل إداري يُعتدّ به. تقع هذه المدينة على بعد 10 كيلومترات من دمشق. وقد حاصرت قوات النظام السوري دوما في خريف العام 2013، وقطعت الطرق المؤدية إليها، وشنّت هجمات من أطراف المدينة، فارضةً حصاراً فعّالاً على المنطقة.
في وقتٍ سابق من العام 2013، أنشأ وجهاء دوما وموظّفو الخدمة المدنية الذين انشقّوا عن النظام، مجلساً محليّاً فعّالاً إلى حدٍّ ما لتوفير بعض الخدمات بشكلٍ مستقل عن النظام، بما في ذلك تنظيف الشوارع، وتنظيم العقود العقارية، وإصدار شهادات الميلاد والوفاة. أصبحت هذه الضاحية مركزاً إدارياً للغوطة الشرقية الخاضعة إلى سيطرة المعارضة.
لكن حصار دوما استنزف تدريجيّاً قدرة المدينة على تطوير ذاتها كمركز مزدهر يستطيع المدنيون أن يعيشوا فيه، من دون الحصول على بعض الخدمات التي يوفّرها النظام. والأشخاص القادمون من مناطق أخرى لم يستطيعوا دخول دوما، ولم يتمكّن سكّان دوما من بلوغ دمشق لتقاضي رواتبهم والحصول على الوثائق الرسمية.
إن التأثير المُستهدَف من الحصار الذي يفرضه النظام ومن حملات القصف العشوائي، هو جَعلُ البقاء على قيد الحياة الهمَّ الأول لسكان دوما. فبعد عامَين على الحصار، يكاد يكون التعرّف على دوما غير ممكن. لقد حافظ جيش الإسلام والفصائل الثورية الحليفة على سيطرة مادية على معظم المنطقة، لكن بسبب الحصار لم يستطيعوا تأمين الكهرباء، والخبز، والأدوية، والتعليم، ووسائل التواصل، أو حتى الوقود للتدفئة في الشتاء. هذا الأمر قوّض بشكل حادّ دعم السكان المدنيين المحليين للمعارضة المسلحة، حتى وإن كان حصار النظام هو الذي قضى على إمكانية الوصول إلى الخدمات. والنتيجة لم يكن ممكناً إقامة بديل عملي عن الدولة السورية.
ومؤخراً، وبعد أن استولت قوات المعارضة على محافظة إدلب الشمالية وعاصمتها في مايو/ أيار 2015، استخدم النظام البراميل المتفجرة لتدمير المستشفى الوطني ومبنى المحافظة، وكذلك مكاتب الهلال الأحمر، مانعاً بذلك أي كيان بديل من القدرة على إدارة مؤسسات الدولة.
إذن عزز نظام الأسد ارتباطه الاستراتيجي في الدولة السورية عبر الآتي:
- يعتمد السوريّون بشكلٍ كبير على الدولة للحصول على الدخل والسلع والخدمات الأساسية والوثائق الإدارية. وحين رُجِّح بقاؤه مهدَّداً، كثّف النظام جهوده للارتباط بمؤسسات الدولة التي توفّر هذه الخدمات الضرورية.
- تمّ توطيد السلطات البيروقراطية التي كانت أصلاً مترامية الأطراف، لتصبح مراكز حضرية يمكن الدفاع عنها بقوة وخاضعة إلى سيطرة النظام.
- دمّر النظام الهياكل البديلة التي أنشأتها المعارضة في المناطق المحرّرة للحفاظ على احتكاره توفير الخدمات الأساسية.
- عزّز صعود تنظيم "الدولة الإسلامية" – الذي قمع بشكلٍ وحشي السكان في المناطق الواقعة تحت سيطرته – باعتباره الكيان الآخر الوحيد القادر على توفير قدرٍ من الإدارة العامة.
وفي حين أن العديد من السوريين والقوى الأجنبية المهتمة يودّ أن ترى نهاية لنظام الأسد، إلا أن قلّة منهم (سواء أكانت من داعميه أم من معارضيه) تريد أن تشهد انهيار الدولة السورية. بيد أن مثل هذا الانهيار سيكون مؤكّداً إذا ما سمح للنظام بمواصلة إحكام قبضته على مؤسسات الدولة.
وعليه لابد لوقف احتكار الأسد للدولة السورية إجراء الآتي:
- النظر أبعد من الاستراتيجية العسكرية: ينبغي على الدول الغربية والإقليمية الداعمة للمعارضة أن تدعم عملية إعادة هيكلة المعارضة المسلحة والسياسية لتُشكِّل كياناً موحّداً ومتماسكاً أكثر من شأنه الاضطلاع بأدوار جديدة في سورية.
- تمكين سلطة بديلة: ينبغي تشجيع مجموعات المعارضة على أداء مهامّ الدولة السورية، كما ينبغي دعمها في هذا المجهود.
- حماية مؤسسات الدولة: ينبغي منع النظام من تدمير هذه المؤسسات بعد انسحاب قواته العسكرية من هذه المناطق. لتحقيق ذلك، يتعيّن على الولايات المتحدة وحلفائها توفير الحماية الجوية من هجمات النظام بعد انسحاب قوات الأسد.
تاريخ النشر من المصدر : 08.07.2015
المصدر : مركز كارنيغي للشرق الاوسط
الرابط:

0 التعليقات Blogger 0 Facebook
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.