كمن يبحث عن الكنز، يحمل المُهجر إلى مدينة دمشق خريطة الإجراءات والخطوات التي عليه أن يتبعها ليصل إلى كنزه الذي لا يتعدى أن يكون منزلا أو مكانا يؤيه وأسرته من “تعتير الشنططة”، خريطة باتت اليوم تحمل من المراحل والنقاط ما يصعب على “سندباد” شخصية المغامرات الشهيرة أن يجتازها، ولكان اعتزل مغامراته اذا ما قرر أن يبدأها من دمشق.
ليس لصعوبة العثور على “الكنز” فحسب، بل لصعوبة اجتياز “الوحش” الذي يقف أمام المهجرين مانعا إياهم من أدنى مقومات العيش، ألا وهي السكن الآمن، وذلك بعد أن جعل “نظام الأسد” وجشع بعض المستثمرين من إيجار المنازل وسكنها حلماً لأهالي المناطق الساخنة، بسبب كثرة العقبات التي تبدأ من ارتفاع إيجار المنزل، وتنتهي “بالموافقة الأمنية”.
فمنذ أن وضعت الأفرع الأمنية في دمشق، يدها على إيجارات المنازل والغرف للنازحين، في نيسان من العام الماضي، وفرضت “موافقة أمنية” مسبقة لكل غرفة أو منزل قبل تأجيره، أصبح العثور على سكن لأهالي المناطق الساخنة، أمراً غاية في الصعوبة، تحكمه أهواء العناصر الأمنية، ونسبة المبالغ التي تدفع لهم مقابل تلك “الموافقة”.
صعّدت الأفرع الأمنية خلال الأشهر الماضية من إجراءات الموافقات الأمنية المطلوبة لعمليات إيجار أو بيع منازل دمشق، ووضعت مزيداً من القيود على أهالي بعض المناطق المعروفة بعدائها وخروجها ضد “نظام الأسد”، فمثلاً منع فرع الـ 215 إعطاء الموافقات الأمنية لأي أحد من الغوطتين الغربية أو الشرقية ليسكن في المناطق التابعة له، مثل تنظيم كفرسوسة، أو المزة، ووضع فرع الجوية قيوداً على الموافقات في شارع بغداد بحق أهالي الريف بشكل خاص، في حين جعل فرع الأربعين الحصول على الموافقة الأمنية بالمناطق المحيطة به أمراً صعب الحدوث إلا “بطلوع الروح” حسب ما قال لنا أحد أهالي الريف ممن حاول الحصول على موافقة.
حاول عرفان، وهو شاب من الريف الدمشقي، الحصول على موافقة أمنية، ليستطيع من خلالها استكمال إجراءات استئجار منزل في جادات المهاجرين، وخلال مراجعته لفرع الأربعين المسؤول عن تلك المنطقة، تعرض للاعتقال، تحت حجج واهية حسب تعبيره، مما اضطر أهل عرفان إلى دفع مبالغ مالية تخطت 100 ألف ليرة سورية، مع تحريك المعارف والوسائط حتى تمكنوا أخيراً من إطلاق سراحه، بعد عشرين يوم اعتقال.
ما كان على عرفان، المعيل الوحيد لعائلته بعد وفاة والده، إلا أن يدفع مبلغا تخطى 25 ألف ليرة سورية مقابل الحصول على تلك الموافقة التي تخوله للاستئجار.
فلم تعد إيجارات المنازل المرتفعة، في دمشق، والتي قفزت بشكل جنوني خلال السنوات الماضية، هي وحدها التكاليف التي تثقل جيوب النازحين ممن أرادوا السكن داخل أحياء العاصمة، حيث أصبحت الموافقات الأمنية أمراً يدفع عليه مبالغ طائلة، قد تصل إلى أضعاف إيجارات المنازل بحد ذاتها.
يحمل فراس (40 عاماً) قصة مشابهة لقصة عرفان في رحلته للحصول على “الموافقة الأمنية”.
تقدم فراس وهو مهجر من الريف الدمشقي، لفرع الأمن العسكري _أحد أكثر الأفرع المعروفة في شراستها_ للحصول على موافقة تمكنه من الاستئجار في منطقة المزة، التابعة إدارياً للفرع، واستعان بوسيط ليسهل حصوله عليها، على الرغم من معرفته السابقة بوجود مبالغ مالية كبيرة ستطلب منه، وخلال مقابلة نظمها الوسيط مع أحد المسؤولين عن الموافقات الأمنية، اعتقل فراس، في كمين أعد له بحجة انتماء عدد من أفراد عائلته وأقربائه للجيش الحر.
 45 يوما، أمضاها فراس في “فرع الموت”، قبل أن يتمكن أهله من إخراجه لقاء مبالغ مالية وصلت إلى 200 ألف ليرة سورية،
خرج من المعتقل وقد كتبت له حياة جديدة، إذ بقي قرابة الشهر في السرير من شدة التعذيب الذي تعرض له داخل الفرع، بينما تفرق أفراد عائلته مقسمين على معارفهم واقربائهم منتظرين إيجاد حل لمشكلة الموافقة.
تمكن فراس فيما بعد من العثور على منزل في منطقة الفحامة، تعهد صاحبه بالحصول على الموافقات المطلوبة مقابل مبالغ مالية، وبعد انتهاء عقده توجه وأسرته باحثاً عن منزل جديد في شارع بغداد، إلا أن فرع الخطيب المسؤول عن المنطقة رفض منحه الموافقة، مما أجبره على خوض رحلة طويلة بين الأفرع الأمنية انتهت بدفع مبلغ تجاوز 25 ألفا لعناصر فرع فلسطين، مقابل الحصول على موافقة أمنية للسكن بمنزل في حي الميدان.
و دفع عبد الرحمن -وهو شاب مهجر من الريف الدمشقي- مع عائلته، مبلغ قارب 50 ألف ليرة سورية، مقابل حصوله على موافقة من فرع الأمن السياسي، للسكن في منطقة ركن الدين.
سابقاً كان يتوجب على كل من أراد السكن في دمشق، الحصول على ورقة تعريف من مختار المنطقة، أو ورقة استضافة، إذا كان على صلة بأحد سكانها، أما الآن فقد ألغيت هذه الورقة بشكل كامل، لتحل الموافقة الأمنية بما تحمله من قيود ومصاعب مكانها.
يطلب ممن يتقدم للحصول على الموافقة الأمنية، صور شخصية للشخص الذي ستقدم الموافقة باسمه، وصور للبطاقات الشخصية الخاصة بكل أفراد العائلة التي ستسكن في المكان، ويتقدم بها للمخفر المتواجد بمنطقة السكن، والذي يتولى من جهته استكمال الإجراءات.
وبعد أن كانت الموافقات الأمنية سبيلاً لاعتقال العشرات من رجال المناطق الساخنة، والشباب المهجرين، اتجه الكثير منهم لتسجيل”الموافقة الأمنية” باسم النساء، في سبيل تسهيل الحصول عليها.
اضطر محمود -وهو أب لأربعة أطفال ومهجر من الغوطة لشرقية- أن يتقدم للحصول على الموافقة الأمنية باسم زوجته، لمعرفته السابقة، بمخاطر تقديمها باسمه، كعائلة قادمة من الغوطة، وذلك بعد اتفاق عقده مع وسيط مقابل مبلغ من المال، استطاع بعده من الحصول على الموافقة للسكن في منطقة الشعلان بدمشق.
كما أصبحت الموافقات الأمنية حجة جديدة، استخدمها بعض المستثمرين و تجار العقارات وسيلة للاستغلال، ورفع إيجارات المنازل، من خلال صفقات تتم “من تحت الطاولة” بين صاحب العقار، وعناصر المخافر أو العناصر الأمنية.
يقول سعيد وهو أحد مهجري الغوطة، عن رحلة حصوله على موافقة أمنية من خلال وساطة :” اكتشفنا بعد فترة أن صاحب المنزل، يقوم بدفع مبالغ خارجية لعناصر المخفر، مقابل التأخر في إعطاء الموافقة، في حين كنا ندفع مبلغ إيجار أكبر من السابق، فبعد أن كان الإيجار 50 ألفا، ارتفع إلى 70 ألف”.
ويضيف :” وصلنا إنذار من المخفر، في حال لم يدفع المبلغ المطلوب خلال 15 يوما، سنضطر لإخلاء المنزل، ولن تتجدد الموافقة!”.
يحمل المهجر في دمشق، بطاقته الشخصية، كغريب لجأ إلى أرض يقال أنها شقيقة أرضه التي فقدها في الحرب، فيجد وجوها غريبة تحمل جنسيات مختلفة، إيرانية ولبنانية وعراقية، تملك امتيازات لا يمكلها هو، استعمرت منازل دمشق القديمة، ومنازل مناطق مرموقة فقط لأنها تقاتل لجانب من دمر منزله، يمشي ومعه ورقة الموافقة الأمنية المرفوضة، ليبحث لنفسه عن منزل في أحد ضواحي العاصمة، حيث لا مكان للموافقات الأمنية ولا حتى للسكن إلا ما ندر.
المصدر: مركز دمشق الإعلامي

0 التعليقات Blogger 0 Facebook

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

 
Syrian Revolution in Switzerland © 2018. جميع الحقوق محفوظة. اتصل بنا
Top