المواد المنشورة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع...

الكاتب: 
جاد الكريم جباعي

تاريخ النشر : 23.09.2015

الحرب هي الاقتصاد السياسي للسلطة، وسياسة السلطة كانت استمراراً للحرب، التي ربحتها قوة عسكرية سيطرت على الدولة والمجتمع، بوسائل أخرى لم تكن حربية دائمة، أما الحرب الجارية منذ انتفاضة مارس/ آذار 2011 فما هي إلا امتداد لتلك السياسة.
وقد تبين أن أعمال جهاز السلطة المركزي منذ هزيمة يونيو/ حزيران 1967، من تعبئة الموارد المتاحة والممكنة والطاقات البشرية المتاحة والممكنة والمؤسسات والمنظمات الشعبية، يصب في الحفاظ على السلطة وضمان استقراراها واستمرارها.
من المعلوم أن الدولة لا تتعامل مع الأفراد حسب أشخاصهم وصفاتهم المختلفة، بل بوصفهم مواطنات ومواطنين متساويات ومتساوين في الحقوق المدنية والعسكرية. أما في سورية، فقد كانت العلاقة بين الفرد والدولة علاقة مباشرة وشخصية، على الرغم من وجود الأشكال الوسطية التقليدية منها، كالعائلة الممتدة والعشيرة والطائفة، أو التقليدية المحدثة، كالنقابة والحزب السياسي وغيرهما من التنظيمات الاجتماعية، إلا أن هذه التنظيمات الوسيطة عاجزة كلياً عن حماية أفرادها من تغول السلطة/ السلطات الشخصية وتجاوزاتها على حرية الأفراد وكرامتهم وحقوقهم وحياتهم.
ومن ثم فإن اقتصاد الحرب، أو الاقتصاد السياسي للسلطة، هو ما يحدد نصيب الموالين والمعارضين من الثروة وعوامل الإنتاج ومن الناتج المحلي، ويحدد كذلك علاقات الإنتاج والعلاقات الاجتماعية. فالموالون يتخلون عن حريتهم وحقوقهم وكرامتهم طوعاً، مقابل امتيازات مادية ومعنوية؛ والمعارضون يُحرمون من ممارسة حيتهم والتمتع بحقوقهم تحت طائلة العقاب، الذي قد يصل إلى القتل أو الموت في أقبية المخابرات، حتى نصل إلى مفهوم "الهدر"، الذي يتضمن القهر ويتجاوزه إلى "هدر الدم واستباحة حياة الآخر باعتباره لا شيء، أي عديم القيمة والحصانة، مما يمكن التصرف فيه، ومنه الاعتراف المشروط بإنسانية الإنسان، كما يحدث في علاقة العصبيات بأعضائها. ويتسع الهدر إلى أن يشمل هدر الفكر والطاقات، وهدر حقوق مكانة الشباب ومواطنتهم.
ولقد أسهم كل من النظام السياسي والثقافة السلطانية والنظام التعليمي والسلطة الناعمة لرجال الدين، في شخصنة العلاقة بين الفرد والدولة، وتوسع ظاهرة "الأسرة اللاأخلاقية". فنسبت هذه الظاهرة إلى "العزوف عن السياسة" تارة، وإلى "نزع السياسة من المجتمع" تارة أخرى، ما يعني إلقاء المسؤولية إما على المجتمع والشعب فقط، وإما على السلطة السياسية فقط، وتبرئة الموروث الثقافي والنظام التعليمي والسلطة التعليمية ومؤسسات التلقين الأيديولوجي، ومنها الأحزاب العقائدية، من المسؤولية.
إن ضمور المحتوى الاجتماعي الإنساني لعملية الإنتاج، أدى إلى توسع اقتصاد الحرب وتعمقه، فغدا امتهان العنف الممأسس مصدراً من مصادر العيش، وغدا أولئك سلطات فوق الأعراف والقوانين، وغدت قيمهم هي القيم الحاكمة بالفعل. كظاهرة "الشبيحة" ومأسستها في "اللجان الشعبية"، ثم "جيش الدفاع الوطني"، ومثلها مؤسسات عنف وجيوش دفاع مقابلة ومضادة لكل منها نشاطها الاقتصادي الخاص.
فقد أنشأ اقتصاد الحرب مهناً وأنشطة غير أخلاقية صارت تغذي شريحة واسعة من الوسطاء وتجار التجزئة، سواء من أصحاب المحلات التجارية أو تجار العربات وتجار الأرصفة، فأنشأ علاقات اجتماعية جديدة، تتمحور على منظومته الأخلاقية الخاصة، كالاستهانة بحياة الآخر والرغبة في الثأر والانتقام، وعزز ظواهر الكسب غير الأخلاقي، التي لا يمكن أن تقوم لها قائمة إلا على علاقات غير أخلاقية بين المنتج والمستهلك. نسبة من المستهلكين يصعب تقديرها لا تتورع عن شراء السلع المنهوبة ومواد الإغاثة، وأخرى لا تتأبى عن دفع الأتاوى والخوات لتحقيق مصالحها وأغراضها، وثالثة لا تبالي بهذا وذاك وتعده من طبائع الأمور.
ومنذ أكثر من 40 عاماً كان للمجتمع السوري قيمه ومعاييره الخاصة، كالمحسوبية والتزلف والنفاق والرشوة والوشاية والكلبية؛ أي ازدراء القيم الاجتماعية والإنسانية، ولا تزال هذه القيم تترجم في سلوكات الموالين وعلاقاتهم البينية، على اختلاف دوافع الموالاة واختلاف أشكالها ودرجاتها واختلاف السلوكات والعلاقات. وما هو لافت للنظر أن هذه القيم المعايير طالت كذلك المعارضة (السلطات المضادة)، تمارس الممارسات ذاتها وتتخلق بالأخلاق نفسها، ما يعني ويؤكد أن السلطة تصنع الأفراد الذين يصنعونها، وتسمهم بوسمها.
إن الحرب السورية نوع من انتحار جماعي، يخسر فيها المجتمع نفسه، ويبدد ما أنتجه من رأسمال اجتماعي وثقافي...، هذه الخسارة ستتطلب أمداً غير قصير وكلفاً مادية ومعنوية تفوق أي طاقة.
كلما طالت الحرب، كلما زادت خسارة المجتمع لنفسه، وتضاءلت قدرته على تدبير مصيره!
لمراجعة الجزء الأول من دراسة اقتصاد الحرب في سورية راجع: المرسوم رقم 19 ونتائج كارثية مستقبلية لاقتصاد الحرب في سورية
تاريخ النشر من المصدر :  اغسطس / أب 2015
المصدر : مركز دراسات الجمهوية الديمقراطية
الرابط: 

0 التعليقات Blogger 0 Facebook

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

 
Syrian Revolution in Switzerland © 2018. جميع الحقوق محفوظة. اتصل بنا
Top