نطلقت شرارة الثورة بعد عقود من الظلم والفقر والاستبداد كان فيها المجتمع السوري رهين أجهزة الاستخبارات ما يلفظ من قول أو ينبس من فعل إلا لديه رقيب عتيد ، وانقسم الشارع السوري آنذاك إلى ثلاثة مفارق : أحدها تمسك بالنظام المستبد خوفاً منه وطمعاً به ، والآخران تمسك بالثورة أو حدث نفسه بها .
وانطلقت حناجر الثوار في الأزقة والحارات بمظاهرات خاطفة ، وبارك الإعلام هتافهم ناقلاً صيحاتهم صيحة صيحة ، فما كان من المستبد إلا أن اجتثّ تلك الحناجر ليدفع بأهلها إلى الثأر ، فاعتنق الثوار عقيدة جديدة في الثورة وحملوا بنادقهم ورفعوا رايات كتب عليها : لا يفل الرصاص إلا الرصاص .
حلقت طائرات النظام على علو منخفض وأمطرت الأحياء المأهولة بالحمم، حاولوا أن يفهموا لمَ كل هذه البنادق والصواريخ مصوّبة تجاه صدورهم التي صفحتها سنوات القمع والاستبداد ، وسريعاً خرجوا من لاوعيهم ذاك ليجد سوادهم الأعظم نفسه وجهاً لوجه أمام خيار واحد لا ثاني له : النزوح .
اعتقد السوريون- كأخوتهم الفلسطينين – أن رحلة نزوحهم هي أيام معدودات سيعودون في نهايتها إلى بيوتهم كي يمضوا أيام العيد فيها ، لكن عيدهم لم يأت والحسرة لم تنحسر عن عيونهم المعلقة نحو الجنوب ، بدأت غربتهم في الداخل حيث لجأت غالبيتهم إلى القرى والأرياف ، ومع احتدام الحرب وامتدادها على رقعة الوطن لجأ معظمهم إلى البلدان المجاورة هرباً من القذائف أو طمعاً بحياة أفضل ، فالذين هربوا نحو الشرق والجنوب الشرقي أُودِعوا في مخيم الزعتري وياله من شقاء ، والذين لجؤوا إلى الشمال والغرب وجدوا أنفسهم في صورة الآخر المنبوذ لدى المجتمعات التي دخلوها كتركيا ولبنان ، يُلمَزون باللسان ويُشـَارُ إليهم بالبنان .
بعد مرور أكثر من سنتين على اندلاع الحرب ظهر على الساحة لاعبون جدد حيّدوا الثورة وأخرجوها عن مسارها الحقيقي ، كما لفتوا أنظار العالم من السفاح إلى شمّاعات اصطنعوها ، إن ظهور داعش قلب موازين اللعبة وأجبر المحللين على التراجع عن أفكار اعتنقوها حول النصر والهزيمة ، وكان النفوذ آنذاك مقتسماً بين النظام ومن يقاتل في صفه كحزب الله والمرتزقة من جهة ، وداعش والأكراد والنصرة وفصائل الحر من جهة أخرى ، فالجهة الأولى كانت تخوض حرب وكالة عن إيران وشركائها في المنطقة ، وأما الجهة الثانية فأطرافها لا تُعرف ولاءاتهم ولا يُؤمَن جانبهم ، فداعش مجهولة الهوية ، والأكراد تارة مع النظام وأخرى مع الحر ، والنصرة يوم مع الحر ويوم عليه ، وأما فصائل الحر فمتناحرة متشاجرة لا يجمع بينها اختلافها على إرث الأسد .
مع دخول الثورة عامها الثالث أوعزت إيران إلى الأسد أن يبدأ بتنفيذ إعلامها سوريا المحافظة رقم “35” لإيران ، سوريا المفيدة التي تصل ما بين العراق ولبنان في إحياء للدولة الصفوية الأولى ، وأمدته – بالإضافة إلى الخزان البشري اللازم لملئ هذه البقعة – أمدته ببراميل ال تي ان تي ما يكفي لتهجير بلد بكامله ، وسرعان ما نجحت الخطة ، كان كل برميل يطيح بعشرات القتلى وآلاف المهجّرين ، رصد الناشطون فراغ أحياء كاملة في غضون أيام ، بعد سقوط عشرات من صواريخ السكود على حلب وحدها ، وازدادت نسبة النزوح 50% ، في المقابل كانت هجرة مضادة تملأ تلك الفراغات ، حيث استقدم مقاتلو حزب الله عائلاتهم وأنزلوها في القصير لكي يضمنوا الخط الساحلي وصولاً إلى لبنان في حال ترسمت حدود سورية الجديدة بعد تقسيمها .
بعد أربع سنوات من الحرب امتلأت شوارع دمشق بالرايات السوداء وغصت أسواقها باللطميات ، وغادر سكان حي الوعر في حمص بيوتهم إلى غير عودة رغم التسوية التي أطاحت بالحر خارج المدينة ليحل مكانهم من يلبون الحسن والحسين ويلعنون عمر وأبا بكر ، وكذا في القصير والقلمون ومن قبلها الساحل معقل أبناء عمومتهم ، واليوم تفاوض إيران على الزبداني لتغييرها ديموغرافياً لما لها من أهمية استراتيجية وامتلائها بأهل كفريا و الفوعة الشيعيتين ، كما أشيعت أخبار عن عمليات تجنيس جماعية للمرتزقة الأفغان والباكستانيين والهنود الذين أغدق عليهم النظام أعطياته ووعدهم بوطن جديد يختارون فيه بيوتهم وأراضيهم بأنفسهم.
تحولت سورية إلى كعكة الكل يريد نصيبه منها ، ولا يخفى على أحد من أن ظهور داعش حقق للدول الاستعمارية العديد من المطامع ليس أولها تجارة أسلحة لا تنتهي وامتيازات اقتصادية واستراتيجية على امتداد دول شرق المتوسط وتشويه صورة الإسلام وتقسيم دول المنطقة إلى دويلات متناحرة والتحكم باقتصاداتها وسلب مواردها ، وليس آخرها ضمان أمن إسرائيل وحدودها لمئات السنين مع دول لا تمتلك حتى جهاز شرطة ينظم حركة المرور .
لقد أصبح الطريق أمام إيران معبّداً بعد اتفاقها التاريخي مع محور الشر ، اتفاق ربما يجعل حلم الدولة الصفوية قاب أعوام أو أدنى ، ذاك الحلم الذي لم يستطع اليهود رغم أطماعهم الاستعمارية المعلنة تحقيقه منذ عقود طويلة ، كل شيء بات مطروحاً فأبواب أوربا المواربة أغرت السوريين الطامعين بحياة أفضل، تقول الإحصائيات إن أكثر من نصف سكان سوريا نزح إلى البلدان المجاورة وأوربا وبذلك تتحقق نبوءة العجوز السبعينية التي قالت : ” الله يقصف عمرو قلنالو رحال قام رحّلنا كلنا وضل قاعد لوحدو بالبلد
0 التعليقات Blogger 0 Facebook
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.