فيما يبدو فيها جلياً أن دور الأسد السياسي اقترب من نهايته، وفي زحمة المبادرات والمفاوضات التي تتمحور فعلياً حول إزاحته بهذا الثمن أو ذاك، تعاود البروز مجزرة الكيماوي التي ارتكبها في 21 آب (أغسطس) 2013 لتكون السيف المسلط على رقبته حتى لو حظي بقرار يحصنه من المساءلة عن جرائمه الأخرى التي لا تحصى، فهي جريمة حرب لا تسقط بالتقادم أو بصفقات سياسية أو بأي وسيلة أخرى، وحق الضحايا بالحصول على العدالة مضمون تحت أي ظرف. فمن يضمن له أن لا تتحرك ضده دعوى بأدلة دامغة لا يمكن دحضها؟ ومن سينقذه في ما لو تمكنت السلطة التي ستخلفه من توفير أدلة اتهام أو معترفين بين عناصره السابقين؟ وما الذي يضمن له إخلاص داعميه الإقليميين والدوليين بعد بضع سنوات من خروجه من الحكم؟ بل من يضمن بقاء هذه السلطات التي ترعاه اليوم حفاظاً على مصالحها في سورية؟ إن الحل الوحيد لتسكين هواجسه يكمن في تبرئته بصك دولي، وربما كان ذلك على رأس شروطه للرحيل من ضمن شروط أخرى تتكفل بها مفاوضاته مع المعارضة السورية ذاتها للحصول على حصانة كالتي حصل عليها علي عبدالله صالح مقابل تنازله عن السلطة في اليمن. وقد تكفلت روسيا على ما يبدو بإنجاز هذه المهمة في مجلس الأمن الدولي الذي تتمتع فيه بميزة الفيتو.
لكن ماذا عن أوباما الذي حرص طويلاً على عدم انتصار المعارضة السورية عسكرياً خشية ارتكابها مجزرة انتقامية بحق الطائفة العلوية تلتصق مسؤوليتها التاريخية به. إن أي مراقب يستطيع أن يكتشف مدى حساسية هذا الرجل، المعززة بثقافة حقوقية وتاريخية، لنقاء صورته فيما سيكتب عنه لاحقاً باعتباره رمزاً عالمياً استطاع دخول البيت الأبيض كأول رئيس أسود. والتي لا بد من أن تدفعه للتفكير بعلاقته بالقضية السورية، التي تفجرت وتفاقمت في سنوات حكمه، بخاصة أنه سيورثها لمن سيخلفه على شكل كتلة نارية متدحرجة اسمها “داعش”. لكن أثقل تلك العناصر وطأة عليه هو المجزرة الكيماوية آنفة الذكر، فهي في حالته كما في حالة بشار الأسد، العنصر الملموس الأكثر صلابة وقابلية لإدانته وإلحاق العار بعهده، إذ استبقها بتصريح شهير جعل من اقتراف ذلك الفعل خطاً أحمر سيجبره على التدخل ووضع نهاية لنظام الأسد، لكن الأخير تحداه ولم يقوَ أوباما سوى على إرغامه على تسليم أسلحته الكيماوية، في مهزلة سياسية وحقوقية تتمثل بإعفاء المجرم من فعلته في مقابل تسليم سلاحه. ومثل بشار الأسد لا يدري أوباما من سيتهمه عندما يغادر البيت الأبيض، ولا يدري أيضاً كم سيتوفر من الأدلة والوثائق التي تثبت تخاذله وربما جبنه عن الإقدام على فعل ما يمليه عليه واجبه كرئيس للدولة العظمى في العالم. ولا ندري نحن في الحقيقة ماذا لدى الاستخبارات الأميركية من الحقائق حول هذا الموضوع، ولا كيف استخدمها أوباما لغايات سياسية في مفاوضاته مع إيران حول ملفها النووي أو غير ذلك، وهي عناصر أخرى لا بد للزمن أن يكشفها مهما طال أمد سريتها. إن مقاربة الموضوع من هذه الناحية تقود إلى تصور ثلاثة احتمالات ممكنة لما ستسفر عنه تحقيقات اللجنة التي اقرّها مجلس الأمن بالإجماع لتحديد المسؤولية عن الهجمات الكيماوية في سورية يوم الجمعة الفائت. أولها أنها ستبرئ نظام الأسد من المسؤولية، ومعه أوباما بالطبع الذي سيجد مستنداً يبرر تخاذله للقول بأنه لم يكن متأكداً أيضاً. الاحتمال الثاني هو أن اتفاقاً جرى بين روسيا والولايات المتحدة على إبقاء الجريمة ضد مجهول، ولا تبرئ اللجنة النظام السوري لكنها لا تدينه أيضاً، وهذا اللبس أيضاً مفيد لأوباما والأسد معاً أيضاً وإن بدرجة أقل. أما الاحتمال الثالث، فهي أن أوباما، وبعد أن أنجز اتفاقه العتيد مع إيران خاتماً به عهده، يريد أن يعود أدراجه ليزيل ي هذه البقعة السوداء التي تلطخ تاريخيه، وليتخلص من عقدة الذنب اتجاه السوريين الذين أغرقهم بالوعود منذ انطلاقة ثورتهم وأرسل سفيره في دمشق ليواكب الأعمال الاحتجاجية السلمية ويعبر عن تأييد الإدارة الأميركية ودعمها لها. لكن الموافقة الروسية على تشكيل اللجنة المذكورة في هذه الظروف بالذات وفي ظل مخاوف النظام السوري الذي تتبنى مصالحه على الساحة الدولية تجعل هذا الاحتمال الأقل إمكانية، إلا إذا كان بوتين بدوره يريد أن يقول لبشار الأسد أنه يمسك بخناقه حتى النهاية في إطار مساومة ما بينهما. ومهما يكن من أمر تلك اللجنة وما سينتج عنها، ومهما تكن هواجس أوباما وبشار الأسد، فإن أهالي الضحايا، والنشطاء السوريين، ودعاة العدالة وحقوق الإنسان حول العالم، لن يرضخوا وليس لهم أي مصلحة، في أي صفقة سياسية تقايض على أرواح مئات الأبرياء، الذين خنقوا بدم بارد، في ليلة صافية من ليالي آب، تحت سمع ونظر العالم أجمع، ولا بد للعدالة أن تلحق الجناة جميعاً، مهما كانت عرجاء وعمياء، ومهما فعلوا للإفلات من العقاب.
الحياة
|
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
0 التعليقات Blogger 0 Facebook
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.